وحدّث من حضر مجلس المأمون وقد أمر بإحضار العباس صاحب الشرطة ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فلما حضر قال: يا عباس خذ هذا إليك واستوثق منه ولا يفوتنك وبكّر به واحذر كل الحذر. قال العباس: فدعوت جماعة حملوه ولم يقدر يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يُحَبّ أن يكون معي إلا في بيتي، ثم سألته عن قصته وحاله من أين هو، فقال: من دمشق، فقال: جزى الله دمشق وأهلها خيراً، فمن أنت من أهلها؟ قال: لا تزيد أن تسألني، فقلت له: أتعرف فلاناً؟ فقال: ومن أين عرفت ذلك الرجل؟ فقلت: كانت لي قصة معه، فقال: ما أنا بمعرّفك خبره أو تعرّفني قصتك، فقلت: ويحك! كنت مع بعض الولاة بها فخرج علينا أهلها حتى أراد الوالي أن يُدلي في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وجميع أصحابه وهربت فيمن هرب، فإني لفي بعض الطريق إذا جماعة يعدون خلفي، فما زلت أحاضرهم حتى مررت على هذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت: أغثني أغاثك الله! فقال: لا بأس عليك ادخل الدار، فدخلت، فقالت لي امرأته: ادخل الحجلة، فدخلتها، وأتت الرجال خلفي فما شعرت إلا به وهم معه يقولون: هو والله عندك! فقال: دونكم الدار، ففتشوها حتى لم يبق إلا البيت الذي كنت فيه، فقالوا: هاهنا، فصاحت المرأة وانتهرتهم، فانصرفوا وخرج الرجل فجلس على باب داره ساعة وأنا قائم في الحجلة خائفاً، فقالت المرأة: اجلس لا بأس عليك، فجلست، فلم ألبث أن دخل الرجل وقال: لا تخف فقد صرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى، فقلت له: جزاك الله عني خيراً! ثم ما زال يعاشرني أحسن المعاشرة وأجملها ولا يفتر من القصف والأكل والشرب والفرح أربعة أشهر إلى أن سكنت الفتنة وهدأت، فقلت له: أتأذن لي في الخروج لأتعرف خبر غلماني ومنزلي فلعلي أن أقف لهم على أثر أو خبر، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا لا يعرفني ولا يعرف اسمي ولا مخاطبتي بغير الكنية، ثم قال لي: ما تعزم؟ فقلت: قد عزمت على الشخوص إلى بغداد فإن قافلة تخرج بعد ثلاثة أيام وقد تفضلت عليّ هذه المدة فأسألك أن تعطيني ما أنفقه في طريقي وما ألبسه، فقال: بصنع الله عز وجل، ثم قال لغلام له أسود: انعل الفرس الفلاني، وتقدم إلى من في منزله بإعداد السفر، فقلت في نفسي: ما أشك إلا أنه يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي، فوقعوا يومهم ذلك في تعبٍ وكدّ، فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحَر وقال: يا أبا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها، فقلت في نفسي: ما أعطاني شيئاً مما سألته، ثم قمت فإذا هو وامرأته يحملان إليّ خفاتين مقطوعة جدداً وراناتٍ وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدّم البغل فحمل عليه الصناديق وفوقها مفرشان ودفع إليّ نسخةً بما في الصناديق وفيها خمسة آلاف درهم وقدّم إلي الفرس الذي كان أنعله بسرجه ولجامه وقال لي: اركب وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس دوابك، وأقبل هو وامرأته يعتذران من تقصيرهما في أمري، وركب معي فشيعني، وانصرفت إلى بغداد وأنا على مكافأته ومجازاته فعاقنا عن ذلك ما نحن فيه من الشغل بالأسفار واتصالها والتنقل من مكان إلى مكان. فلما سمع الرجل الحديث قال: قد أتاك الله عز وجل بمن تريد مكافأته بلا مؤونة عليك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أنا والله ذلك الرجل! ثم قال لي: ما أثبتك! فتعرّف إليّ وأقبل يذكرني بأشياء يتعرف بها إليّ حتى أثبته وعرفته فما تمالكت أن قمت إليه فقبّلت رأسه وقلت له: ما الذي أصارك إلى هذا؟ فقال: هاجت فتنة بدمشق مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إليّ وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وحُملت إليه وأمري عنده غليظ جداً وهو قاتلي لا محالة، وقد خرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من عبيدي من ينصرف إلى منزلي بخبري وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تنعم وتبعث إليه حتى يحضر فأتقدّم إليه بما أريد، فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة لي. قال فقال العباس: بصنع الله، ثم قال: علي بحدّادين، فأتوا بهم، فحلّ قيوده وما كان عليه من أنواع الأنكال، ودعا بالحجام فأحضر وأخذ من شعره ثم قال: عليّ بمولاه، فأنفذ في طلبه من يحضره. قال الرجل: فلما أن أخذ شعري