أما الفقرة الثانية فلا نوافقهم عليها، وهي الفقهيات، كيف هذا؟ كيف يتصور في جماعة يسمون أنفسهم بـ جماعة التبليغ، ماذا يريدون أن يبلغوا الناس؟ إما أن يبلغوا العقيدة وهم مع الأسف لا يفعلون، ولا أدري هذا لماذا لا يذكرونه؛ ولعلهم يعنون بالفقهيات ما هو أعم وأشمل.
إلى ماذا يدعون هم إذاً؟ أنا لا أريد أن أقول: إنهم يدعون إلى ما يمكن أن تدعو إليه كل طائفة متدينة على وجه الأرض، مهما كان نوع دينها، إلا اليهود، فأنتم تعلمون -مثلاً- أن جماعة التبشير من النصارى هم يدعون إلى الوصايا العشر: لا تسرق، لا تزن، لا تكذب إلخ، أيضاً هذه الأشياء يدعو إليها الإسلام، فإذا كان الجماعة لا يريدون أن يبحثوا في السياسة قلنا لهم: لا بأس مؤقتاً، لكن في الفقهيات يقول رسول الله:(من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) .
أنا أعتقد جازماً أن هذه الفقرة سبب وضعها وتركها، هو نفس السبب الذي يحملهم على ترك خطبة الحاجة، ولعلكم لم تنسوا بعد ما هو السبب؟ هل لأنهم لا يؤمنون بقوله عليه الصلاة والسلام:(كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ؟ هذه القاعدة التي أسسها عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا لكم آنفاً، ولذلك فإنهم لا يعرجون على هذه السنة المتروكة ولا يحيونها، كذلك لماذا أعرضوا عن الفقهيات؟ لأنهم لا فقه عندهم؛ لأن الفقه كما قال ابن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشويه
فهم لا يبحثون في الفقهيات بزعم أنه يثير الخلاف، وهذا زعم يتسترون خلفه، والحقيقة أنهم لا يحسنون الفقه، كل واحد كما يقولون عندنا في الشام: جماعة التبليغ مثل الإخوان المسلمين، مثل حزب التحرير، لا فرق بينهم في نقطة واحدة، وهي: جماعة الإخوان المسلمين يجمعون بين السلفي والصوفي بين الحنفي والشافعي، والمالكي والحنبلي، وفي بعض الظروف بين السني وبين الشيعي، هكذا السياسة تقتضي.
حزب التحرير كذلك لا يهمهم، حتى لقد صرحوا أن من منهجهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، هذا من حسناتهم، لكنها في نفسها سيئة، أما جماعة التبليغ فلم يصرحوا بهذا، لكن واقعهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، كما أنهم من باب أولى لا يتبنون رأياً في الفقه، لماذا؟ لأن الفقه أُلف هناك من جماعة الأزهر الشريف كتاب اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، إذا أردت أن تضيع في غمرة الخلاف بين المذاهب الأربعة فاقرأ هذا الكتاب، حينئذ لا تخرج منه إلا وأنت مدوخ، لا تعرف إلى أي قول تذهب إليه وتتمسك به، كذلك دكاترة الجامعات اليوم يدرسون الفقه الذي يسمونه بالفقه المقارن على طريقة الفقه على المذاهب الأربعة، يقول لك: أبو حنيفة قال كذا وحجته كذا، والشافعي قال كذا، وحجته كذا إلخ، وبعد ذلك أين الحق الذي قال الله عز وجل فيه:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}[يونس:٣٢] ؟ ما المسئول عنها بأعلم من السائل! فإذاً: الذين لا يشتغلون بالفقهيات ليس السبب أنه يوقع الخلاف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر قاطبة، وأرجو أن تفهموا هذا وتحفظوه، من أسمائه: الفارق أو المفرق، كالقرآن، فإن القرآن من أسمائه الفرقان، لماذا رسول الله مفرق؟ لأنه فرق بدعوته بين المؤمن والكافر، وكان من نتائج ذلك أن فرَّق بين الوالد وولده، هذا كافر مشرك وهذا مؤمن مسلم، إذاً لماذا نحن نخاف أن نفرق؟ نخاف أن نفرق بالباطل، ولا ينبغي أن نخاف أن نفرق بالحق؛ لأن ربنا يقول:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}[يونس:٣٢] لكن الحقيقة أنهم لا يعرفون الحق من الباطل، لا يعرفون الصواب من الخطأ، ولذلك تمثلوا بالمثل العامي:(الهريبي نصف الشجاعة) المقصود فهم عرفوا أنهم كما يقال أيضاً: (ليسوا حشو الكبدة) يأتون ويقولون مثلاً: قال أبو حنيفة: خروج الدم مهما قل فهو ناقض للوضوء، والإمام الشافعي يقول: مهما كثر فهو غير ناقض للوضوء، والإمام أحمد يقول، ومالك أيضاً معه من قبل: إن كان كثيراً نقض وإلا فلا ينقض، ماذا يريدون من هذه الدوشة؟ هذا الأمر يحتاج إلى اطلاع على أدلة المذاهب أولاًَ، ثم إجراء معادلة ومراجحة بين هذه الأدلة ثانياً، وهذا يتطلب -إضافة على وجوب معرفة أقوال العلماء- أن يعرف علم الحديث في مصطلحه، وعلم الجرح والتعديل في توثيقه وتجريحه، وهذا أكثر الدكاترة، ليس العامة من جماعة التبليغ وأمثالهم الذين يخرجون للدعوة وأمثالهم، هؤلاء لا يستطيعون، لكني كنت أستحسن منهم أن يقولوا كما يقولون، بالأمس القريب -كما ذكرنا لكم- كنا في مأدبة، وتكلمنا حول جماعات منها جماعة التبليغ فقال لي أحدهم ممن نحسن الظن به -لأنني حضضتهم على العلم- قال: لذلك مشايخنا يقولون لنا: اذهبوا إلى العلماء، فقلت لهم: نحن نريد أن تكونوا أنتم العلماء، أنتم الذين تهتمون بدعوة الأمة، ليس أنتم تذهبون إلى العلماء ثم تخرجون ولستم علماء.