[لا سبيل إلى فهم الإسلام إلا بمعرفة سير الصحابة]
ومن هنا ينبعث في نفسي أن أُلفت النظر إلى أهمية هذه الضميمة التي نحن ندندن حولها في مثل هذه المناسبة وهي أنه لا يكفي لأي جماعة إسلامية تنتمي بحق إلى العمل بالكتاب والسنة، أن يقتصروا على فهم الإسلام بناءً على الكتاب والسنة فقط، بل لا بد -أيضاً- من معرفة تطبيق أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة.
وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جداً يمكن بها تقريب أهمية هذه الضميمة، وقد ذكرت في بعض المحاضرات أو الأجوبة نماذج منها، والآن يحضرني مثال آخر، وهو ما جاء في صحيح البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من أكثر من طريق واحد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر أصحابه أن يسووا الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة، قال النعمان بن بشير: كان أحدنا يلصق قدمه بقدم صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه) .
هذا فعل وقع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، تطبيقاً منهم لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتسوية الصفوف، ومما لا شك ولا ريب فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يخفى عليه ما فعله أصحابه من خلفه وهم يصلون مقتدين به وتنفيذاً لأمره بتسوية الصفوف وتراص الصفوف؛ ذلك لأن من خصوصياته عليه السلام ومعجزاته أنه كان وهو في صلاته يرى من خلفه كما يرى من أمامه، فلو أن هذه التسوية لهذا التراص -رص الأقدام ورص المناكب- لم يكن مشروعاً لكان تكلفاً، ولو كان تكلفاً لنهاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عنه؛ لأن هناك حديثاً صحيحاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلف) .
وإن قيل: إنه من الممكن أن يخفى ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنقول: باب الإمكان واسع جداً، لكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب لسببين اثنين ذكرت أحدهما آنفاً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه.
السبب الثاني وهو الأهم: أنه إن فرض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشهد هذا الأمر الذي فعله أصحابه خلفه في الصلاة، فرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فما قلناه آنفاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وليس له من الوظيفة إلا التبليغ عن الله عز وجل- فبالأولى والأحرى أن يقال ذلك عن رب الرسول تبارك وتعالى، فيقال: إذا كان ربنا عز وجل -كما أشرنا إليه آنفاً اقتباساً من القرآن- لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وكان الله عز وجل لا يريد أن يشرع لعباده المؤمنين هذا التراص في الصفوف لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينهاهم عن هذا التكلف، إذاً لا ينبغي أن يتصور المسلم سكوته عليه السلام عن شيء إلا وربنا عز وجل مطلع عليه، وبالتالي إقرار الله لنبيه على هذا هو تشريع.
من هنا نتوصل إلى الإشارة إلى بعض المسائل التي جرى الخلاف فيها قديماً في بعض الأحكام الفقهية بين الحنفية والشافعية، حيث إن أحد الفريقين يحتج بما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيرد الآخر بأن هذا الذي وقع ليس فيه بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع عليه حتى يقال: إنه اطلع فأقره.
بما سبق من الكلام يرد على هذا الرد من بعض المذهبيين: أضرب لكم مثلاً أو أكثر، جاء في صحيح البخاري: (أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان يصلي صلاة العشاء الآخرة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده، ثم ينطلق إلى قبيلته فيصلي بهم الصلاة نفسها، يقول راوي الحديث وهو جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه: هي له نافلة ولهم فريضة) .
استدل بعض الأئمة المتقدمين بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض وراء المتنفل، فرد ذلك بعض المذهبيين بأن هذا لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم أن معاذاً بعد أن يصلي خلفه يعود إلى قبيلته فيصلي بهم نفس الصلاة، فتكون له نافلة ولهم فريضة.
والجواب عليهم أن نقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حقيقة أن معاذاً كان يعيد هذه الصلاة تنفلاً، فربنا عز وجل يعلم السر وأخفى، فلو كان فعل معاذ غير مشروع لجاء الحكم من السماء لبيان عدم شرعيته.
ومثال آخر ونكتفي به -وأعدد الأمثلة لأهمية هذه الملاحظة التي قلما نجدها فصيحة مبينة في كتب العلماء-: جاء في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، وسنن البيهقي، وغيرها من كتب السنة، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة، أصبنا فيها امرأة من المشركين) أي: قتلناها، ولا يخالف هذا الحديث الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ لأن النهي محله في مكان وهذا القتل الذي ذكر في حديث جابر له محل آخر، فالنهي ينصب على قتل النساء اللاتي لم يشتركن في قتال المسلمين، والقرينة على ذلك قوله: (والصبيان) فإن الصبيان ليسوا من المقاتلة، فعلى هذا فقول جابر رضي الله تعالى عنه: أصبنا في تلك الغزوة امرأة من المشركين، يعني: أنها كانت من المقاتلة قال: (وكان زوجها غائباً، فلما رجع وأخبر الخبر، حلف ألا يدخل القرية إلا بعد أن يثأر لها ثأراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبع آثار الصحابة) .
ومعلوم أن العرب كانت تستعمل هذه المعرفة، فبتتبع الآثار وصلوا إلى اكتشاف مأوى الرسول في الغار يوم عزم على الهجرة من مكة إلى المدينة، فالأثر دلهم على أن الرسول عليه السلام وصل إلى هذا المكان؛ لأن الأثر انقطع هناك، لكن أعمى الله بصرهم فلم يروا الرسول عليه السلام وصاحبه في الغار، بينما صاحبه رأى أقدام المشركين، فخشي ليس على نفسه بل على نبيه، فقال: (لا تحزن إن الله معنا) .
وهنا لا بد من التذكير بأن ما يذكر في بعض كتب الحديث وفي كتب السير، أن الذي صرف كفار قريش بعد أن هداهم تتبعهم للأثر إلى أن المطلوبين هما في الغار، زعموا بأنهم رأوا الحمامة قد عششت وباضت، وأن العنكبوت -أيضاً- نسج خيوطه، وقالوا: لا يمكن أن يكون في الغار أحد، فانصرفوا، هذا لم يصح على طريقة أهل الحديث، ثم هناك رواية قوية بأن الله عز وجل أمر ملكاً بأن يغطي بجناحه فم الغار ولذلك لم يروه.
فالشاهد أن ذلك المشرك تتبع آثار الجيش الغازي لتلك القرية، حتى وصل إلى مكان كان قد أدركهم فيه المساء، فنزلوا في وادٍ، وحسب النظام العسكري النبوي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان من الأنصار، أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، فقالا: نحن يا رسول الله! فقال لهما: كونا على فم الشعب، فانطلقا، والمشرك يراقبهما يريد أن يستغل الفرصة للوفاء بنذره ويأخذ بثأر زوجه، ولما وصلا إلى المكان الذي هو موضع حراسة الجيش النائم اتفقا على أن يتناوبا الحراسة، فأحدهما يحرس نصف الليل بينما الآخر ينام، ثم يتبادلان، ثم بدا للحارس الذي قام منتصباً أن يجمع بين عبادتين في وقت واحد: عبادة الحراسة، وعبادة الصلاة في الليل الهادئ، فقام يصلي، وهنا اغتنم المشرك الفرصة، حيث كان مختبئاَ وراء صخرة، فرماه بحربة فوضعها في ساقه، فما كان منه إلا أن رماها أرضاً والدماء تسيل منه، ولما رأى المشرك أن هدفه ما زال منتصباً رماه بالحربة الثانية فوضعها في ساقه، وهكذا ثلاث حراب ويصيب الهدف، ومن دقة تعبيره يقول: وضعها، والوضع عادة يكون باليد، لكن هذا من دقة الإصابة للهدف فكأنه يضع الحربة وضعاً بيده، ومع ذلك كان الصحابي الجليل مستمراً في صلاته لا يقطعها والدماء تسيل منه، حتى صلى ركعتين، ثم إما أنه أيقض صاحبه وإما أنه استيقظ، فلما رأى ما في صاحبه من الدماء هاله الأمر، وسأله عن السبب فقال: والذي نفسي بيده لقد كنت في سورة أقرؤها، ولولا أني خشيت أن أضيع ثغراً وضعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حراسته لكانت نفسي فيها) .
أي: تذكر وهو يصلي بأنه في وظيفة أمره الرسول أن يقوم بها، وهي حراسة الجيش النائم، وقد راق له الاستمرار في هذه الصلاة؛ لحلاوة المناجاة بين يدي الله عز وجل، ولولا أنه خشي أنه إن استمر في الصلاة، واستمر المشرك في رميه أن يكون هلاكه في هذه الصلاة فربما يهاجم العدو المسلمين، ولذلك هو قنع من الصلاة بركعتين، ولم يقنع بذلك خوفاً من الهلاك، وإنما خوفاً من هلاك الصحابة، فيما إذا هو مات وغدر بهم العدو.
إلى هنا تنتهي القصة، والشاهد منها: أن بعض الأئمة يحتجون بأن الدم لا ينقض الوضوء؛ لأنه لو كان ناقضاً لما استمر هذا الرجل في الصلاة، فيرد المخالف ويقول: هذا تصرف شخصي منه، فيقول المردود عليهم: نعم، لكن هذا هو من أصحاب الرسول عليه السلام، فيجيب المخالف ويقول: ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك.
نحن نجيب بجوابين اثنين، ولكن هنا شيء أقوى في أحد الجوابين مما سبق، وذلك أن هذا موظف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيصاب بهذه الجراحات وهو في حالة من العبادة والصفاء النفسي، فهل يمكن أن يخفى هذا على قائد الجيش لو كان قائداً عادياً؟ فكيف وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! مستبعد جداً جداً جداً أن يخفى وضع هذا الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الراجح أنه عليه السلام اطلع على واقع هذا الحدث، وبناءً على ذلك لو كان خروج الدم ناقضاً لبين ذلك، لما هو معلوم من أصول الفقه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استمر المخالف في المكابرة وقال: إنه لا يوجد نص أن الرسول صلى الله عليه وسلم اطلع، نقول له: حسبك أن رب الرسول اطلع، وهذا لا يمكن إنكاره، فإذا لم ينزل شرع يبين أن خروج الدم ناقض الوضوء، كانت القصة حجة لمن يحتج بها على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء.
الشاهد من هذا ومن ذاك: أن فهم الإسلام فهماً صحيحاً لا س