أما أنا فأحدثكم عن قضية جرت لي كنت منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة في بئر عطية -قرية في الطريق إلى حلب - كنت سامراً ساهراً وإذا بنا نسمع طرق النافذة، ليس الباب، فخرج المضيف -صاحب الدار- لينظر من الطارق، فسمعنا احتفاء ومبالغة في الاحتفاء بالرجل الطارق ولم نره بعد: أهلاً وسهلاً يا أبا فلان، وأنا ومن في المجلس أردنا أن نعرف من هذا الضيف الكريم، فكانت مفاجئة لي منه ومني له؛ لأننا ضدان اجتمعنا، الرجل أعرفه ويمكن بعض الحاضرين يشاركونني في المعرفة من أهل محلة العمارة هذا الزائر الذي دخل كان يجلس دائماً وأبداً بجانب الركن الجنوبي الغربي من مسجد جامع اليوسفي في الساحة التي أمام دكاني، كان يجلس في رمضان يشرب الدخان علناً، ثيابه رثة، وعيناه جاحظتان محمرتان -والله أعلم- من شرب الحشيش والدخان، وإذا بصاحب البيت يعتقد فيه الولاية، ولذلك احتفى به احتفاءً بالغاً، فلما دخل الرجل فوجئ بي، فتظاهر بأنه أبله أو مجنون أو مأفون -كما يقولون- فأخذ يركع ويسجد بدون وعي، ويذكر كلاماً كما يقول ابن الجارم جملة غير تامة لكنها كلمات غريبة بيض، وباذنجان ونحو هذه الكلمات، وهو لم يذكر أي شيء لكنه خلط في الكلام، حينئذٍ افتتحت كلمة بقوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس:٦٢] من هم؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يونس:٦٣]{لَهُمُ الْبُشْرَى}[يونس:٦٤] وعلقت على كلمة الإيمان والتقوى ولستم بحاجة إلى مثل هذا التعليق.
إنما الخلاصة: أن الولي لله عز وجل هو المؤمن بالله إيماناً جازماً بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة، والعامل بأحكام الشريعة أمراً واجتناباً، وبلا شك ما ابتدأت الكلام بمثل هذا إلا لأصل إلى ضيفنا هذا، لأقول: إن هناك أناساً يتظاهرون بالولاية وقد يأتون بأمور خارقة للعادة فيظنها بعض الناس كرامات، وإنما هي إهانات، وتكلمت طويلاً في هذا الصدد، ثم سكت ففوجئت بكلام المضيف -رجل عاقل- قال: والله يا أستاذ نحن كنا نعتقد هكذا مثلما تقول: أن الكرامة والولاية هي العمل بالكتاب والسنة.
والشاهد ليس هذا، فالشاهد فيما يحكيه هذا الرجل كيف طور عقيدته الصحيحة إلى العقيدة الباطلة، بمجيء رجل كان من أهل القرية، وعاش في الأزهر الشريف عشرين سنة أو نحو ذلك، فلما رجع إليهم رجع يعلمهم خلاف الإسلام، وأن المهابيل هؤلاء هم أولياء الله.
قال: كنا نعتقد أن هذا هو الإيمان وهذا هو الإسلام -كما ذكرت- حتى جاءنا هذا الشيخ، قال: فأخذ يحدثنا بحكايات وقصص تتلخص في أن الله عز وجل له أشخاص وضع سره فيهم، إذا نظرتم إليهم لا يعجبكم عملهم ولا أقوالهم ولا أفعالهم، ولكن هؤلاء من كبار الأولياء هؤلاء تنظرون إليهم أنهم تاركون للصلاة، لكنهم يصلون الصلوات الخمس في المسجد الحرام -هذه كرامة لهم- وتنظرون إليهم أنهم مفطرون ويأكلون في رمضان، لكنهم في الحقيقة صائمون، ولكنكم أنتم الذين تنظرون إليهم بأنهم مفرطون، وغير هذا من المخاريق والأكاذيب.