للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح قاعدة: القول مقدم على الفعل عند التعارض]

السؤال

عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً كاشفاً عن فخذه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قالت: يا رسول الله! استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك، فقال: يا عائشة! ألا أستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه) رواه أحمد وذكره البخاري تعليقاً.

وعن محمد بن جحش قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر! غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة) رواه أحمد، والحاكم والبخاري في تاريخه وعلقه في صحيحه.

فهل هناك تعارض بين الحديثين؟ أو هل يُفهم من الحديث الأول أن الفخذ ليس بعورة؛ لأنه لو كان عورة ما كشفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟

الجواب

لو لم يكن في الباب الحديث الثاني لكان الحديث الأول يدل على أن فخذ الرجل بالنسبة للرجل ليس بعورة، ولكن ما دام أنه قد جاء هذا الحديث الثاني وأحاديث في معناه كثيرة تصرح بأن الفخذ عورة؛ فحينذاك لا يؤخذ الحكم من الحديث الأول الذي فيه أن الرسول كشف عن فخذه في حضرة أبي بكر وعمر، وإنما يؤخذ الحكم من الحديث الثاني.

والسبب: أن هناك قاعدة فقهية تقول: إذا تعارض حديثان، وكان أحدهما من قوله عليه السلام كحديث معمر هذا، والآخر من فعله عليه الصلاة والسلام كحديث عائشة، ففي هذه الحالة يقدم القول على الفعل.

هذه قاعدة أصولية من تفقه بها فُتحَ عليه فقه كبير جداً، واستطاع التوفيق بين أحاديث كثيرة، وهي: القول مقدم على الفعل عند التعارض.

والقول في ذلك: إن القول الصادر من الرسول عليه السلام الموجه إلى الأمة هو شريعة عامة، أما الفعل الذي يفعله هو فيمكن أن يكون شريعة عامة حينما لا يوجد معارض له، ويمكن أن يكون أمراً خاصاً به عليه الصلاة والسلام.

ومن المعلوم أيضاً عند العلماء قولهم: الدليل إذا طرأ عليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

فهذا الفعل، أي فعله عليه الصلاة والسلام، يمكن أن يكون شريعة عامة، ويمكن أن يكون حكماً خاصاً به عليه الصلاة والسلام، ويمكن أن يكون هذا الشيء الذي فعله الرسول عليه الصلاة والسلام لعذر، فما دام أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أسباباً كثيرة تجعل هذا الفعل ليس شريعة عامة، وقد جاء قوله عليه السلام بما يخالفه؛ حينذاك القول مقدم على الفعل، ولهذا أمثلة كثيرة جداً.

مثلاً: من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يواصل الصيام، يواصل صوم النهار مع الليل والليل مع النهار وهكذا، فرآه أصحابه فواصلوا معه الصيام ولم يفطروا، وإنما أربعة وعشرين ساعة، وثمانية وأربعين ساعة وهكذا يتضاعف الرقم، فواصل الصحابة معه حتى ضعفوا! لم يستطيعوا أن يتابعوا الوصال في الصيام، فنهاهم الرسول عليه الصلاة والسلام عن أن يوصلوا الصيام، فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتواصل، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) إني لست كهيئتكم؛ لست كمثلكم، عندي طاقة وعندي قدرة ربانية، الله عز وجل يمكنني بها من مواصلة الصيام والاستمرار فيه، وأنتم لستم مثلي، فلا تواصلوا.

فهنا نأخذ الحكمة من القاعدة السابقة، أن الرسول عليه السلام قد يفعل الفعل وهو خاص به، فما دام أنه نهى عن شيء وهو فعله فنحن لا نفعله؛ لأن فعله خاص به، وقوله شريعة عامة للمسلمين جميعاً.

كذلك من الأمثلة المشهورة عند جميع الناس: أن الرسول عليه السلام مات وتحته تسع نسوة، بينما جاء في الحديث الصحيح: أن رجلاً في الجاهلية كان متزوجاً تسعاً، فلما أسلم جاء إلى الرسول عليه السلام فذكر له ذلك، فقال له: (أمسك منهن أربعاً وطلق سائرهن) ما قال له: أنت متزوج كذا؛ لأنه يعرف أن له خصوصياته.

إذاً: إذا اختلف القول من الرسول عليه السلام مع فعله فالقول مقدم على الفعل.

فحديث عائشة هنا لا يعارض حديث معمر: (غط فخذيك؛ فإن الفخذين عورة) فهو المعتمد في هذه المسألة، وليس حديث عائشة؛ لأنه فعل من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا يمكن أن يكون قبل تحريم كشف الفخذ، ويمكن أن يكون خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الاعتماد على قوله عليه السلام في هذه الحادثة وليس على فعله.