للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم التفريق بين الأحاديث المتعلقة بأمور الدين والمتعلقة بأمور الدنيا]

السؤال

هناك من يرى في الأيام الحاضرة، أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالعبادات ملزمة للمسلم أن يعتقد بها، في حين أنهم لا يرون ذلك بالنسبة للأحاديث المتعلقة بأمور الدنيا، ويرون أن العقل البشري يمكن له أن يحكم عليها بالصحة والبطلان، تبعاً لتطور الفكر ومكتشفات العلم، ويؤيدون ما يذهبون إليه بحادثة تأبير النخل، وحادثة تمركز جيش المسلمين في غزوة بدر عند الماء، كما أنهم يقولون في الصحابة: إنهم رجال، ونحن رجال، وإنهم خاضعون للنقد في سلوكهم وأقوالهم شأن أي من الرجال، فالرجاء بيان الرأي في ذلك مع الشكر.

الجواب

هذا السؤال كما لاحظتم يتضمن سؤالين: أولهما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام وأقواله، والتفريق المزعوم بين ما له علاقة بالدين والعبادة، وما له علاقة بغير ذلك.

والسؤال الثاني الذي يتعلق بالصحابة، ولست أدري ماذا أراد السائل من الربط بين السؤال الأول والآخر، إلا أن يكون يعني حكاية عن أولئك الناس: أن هذه الأحاديث التي ترد عن الرسول عليه الصلاة والسلام مرفوعة إليه، وفيها إشكال أو فيها مخالفة للعلم -زعموا-، كحديث الذباب مثلاً: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ... ) إلخ، فلعل السائل يعني بالسؤال الثاني: أن مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها في سؤاله الأول، والتي ليست من أمور الدين في شيء -بزعمهم- إنما رواها هؤلاء الصحابة، وهؤلاء الصحابة إنما هم بشر مثلنا، فيجوز عليهم الخطأ، فكأن قصد السائل فيما يشرحه عن أولئك الناس في هذا الزمان أنهم يقولون: إن ما جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مما له علاقة بالدين والعبادة المحضة، فنحن له خاضعون ومستسلمون، أما ما جاءنا عنه من غير ذلك مما له علاقة بالكون، والفلك، والبحار، والجبال، وغير ذلك من أمور الطبيعة، فنحن لسنا مكلفين ولا متعبدين بالخضوع لها والاستسلام لها؛ لأمرين اثنين: الأمر الأول: أننا إذا سلمنا بصحة هذه الأحاديث ونسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول بشر ويجري عليه ما يجري على البشر؛ إلا فيما يتعلق بالدين، وهذه الأمور في زعمهم ليس لها علاقة بالدين، فإذا جاءت مخالفة لما ثبت في العلم التجريبي؛ فحينئذٍ نحكم بأن ذلك من أخطاء الرسول عليه الصلاة والسلام في الأمور الدنيوية، ومثال ذلك ما جاء في السؤال: حديث تأبير النخل، أو يقولون: إن الذي روى الحديث ونسبه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هو صحابي أو من دونه، فهو ليس بمعصوم فيكون قد أخطأ، فدلنا على كون هذا الحديث خطأً العلم التجريبي زعموا.

وهو يقول: لا شك ولا نحابي نحن في دين الله أحداً، ولا نمشي فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام بعواطفنا، وإنما بعقولنا وعلمنا المستقى من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله، ونحن نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً في كل شيء، لكنه معصوم في كل شيء أن يقرَّ على شيء من هذه الأشياء وهو مخطئ في ذلك، فهنا شيئان يجب التمييز بينهما: الشيء الأول: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد يخطئ، ولا حاجة بنا إلى الإكثار من الأدلة على ذلك؛ لأن القرآن يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] من الذي لا يفهم من هذا أنه كان الأولى ألا يأذن لهم؟ فيكون هذا خطأ، كذلك قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:١-٢] إلى آخر الآيات، فهذه الآيات فيها أشياء كثيرة جداً.

أخيراً: يأتي حديث تأبير النخل، حيث قال لهم: (لو تركتم النخل بدون تأبير -أي: بدون التطعيم الذي كانوا يعرفونه بالتجربة- لكان خرج خيراً مما تفعلونه) وشاء الله عز وجل أن يطبق في هذه الحادثة بعينها سنته عز وجل في النخل، فجاء النخل شيصاً، أي: عبارة عن بذرة وقشرة ليس فيها لب، ناشف، فجاءوا إليه يقولون: الأمر كذا وكذا، فقال: (إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بشيء من أمر الله عز وجل فأتوا منه ما استطعتم، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمور دنياكم) انتهى الحديث.

فنحن نلاحظ أن قضية تأبير النخل قضية مهنية دنيوية محضة، لا ضير على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا عيب، ولا نقص ألا يكون مؤبراً، ولا مزارعاً، ولا حداداً، ولا نجاراً.

إلخ، لماذا؟ لأن هذه أمور دنيوية، لكن فيما يتعلق بالدين، والدين ليس فقط عبادات كما يزعم هؤلاء الذين يحكي عنهم السائل، فالدين فيه أمور تتعلق بالعبادات، وفيه أمور تتعلق بالمغيبات، وفيه أمور تتعلق بنظم يسمونها اليوم في الاصطلاح الجديد بالاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والتربوية إلى غير ذلك مما هو معلوم، فالإسلام جاء كاملاً وشاملاً لكل ما يحتاجه البشر من نظم {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] .

ولذلك إذا جاء حديث ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه من أمور الدنيا، وليس من أمور الدين، ومثاله حديث الذباب الذي ذكرناه آنفاً، ومثال ذلك: (الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا السام) أي: الموت، وهذا منه شيء كثير وكثير جداً، بعد أن يصح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يجوز أن نجعل هذا النوع من أمور الدنيا التي لنا الخيرة فيها، ولنا أن نأخذ بها أو لا نأخذ، أو نصوبها أو نخطئها، والسبب في ذلك من ناحيتين: الناحية الأولى: ما ذكرته آنفاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام إن أخطأ -وقليلاً ما يخطئ- فلا يقر على خطئه، فإذا جاء الحديث وقد تلقاه الصحابة، وتلقاه من بعدهم، وهكذا جيل عن جيل، حتى وصلتنا هذه الأحاديث على أنها حق وصدق من حيث الرواية، ومن حيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام تكلم بها، وأقره الله تبارك وتعالى عليها، فلا يمكن والحالة هذه أن نقول: إن هذه من أمور الدينا، هذا من ناحية.

أنا أقول: عجباً من هؤلاء الناس! لو أن إنساناً عادياً ليس له من خلقه ومن كماله ما هو جزء من مليون جزء من كمال الرسول عليه الصلاة والسلام، لو قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، ثم ليخرجه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء) ماذا نقول عن هذا الإنسان؟ نقول كما قيل في بعض القضايا، أو في بعض العلماء، لما قيل لبعض الظرفاء والأدباء: فلان كذا وكذا في العلم، وفي حفظه للحديث، فذهب ليزوره، فلما خرج من عنده سألوه: كيف رأيته؟ قال: إما أنه أحفظ الناس، أو أكذب الناس، لماذا؟ لأنه سمع منه أشياء، وعلى الرغم من أنه يكاد يكون مقراً له من حيث الحفظ والرواية، ولكنه أسمعه أشياء ما سمعها في حياته كلها.

إذاً إما أنه من أحفظ الناس أو أكذب الناس.

كذلك يمكن أن نقول: إذا تحدث إنسان عادي في هذا الأمر الغريب، فقال: إن هذه الحشرة الصغيرة في أحد جناحيها داء، وفي الآخر دواء، ماذا نقول عنه؟ إما أنه دجال، وإما أنه أوتي من العلم ما لم يؤت الناس، لا مناص من أحد شيئين: إما أن يقال: يمكن أن يكون هذا باجتهاد من عنده، وهو لم يتعلم أي علم؛ لا طب، ولا جراحة، ولا تشريح، ولا أي شيء، مع هذا هل يقال: قال هذا برأيه؟ لا.

هذا صنيع الدجالين.

لذلك أنا أقول: هؤلاء الناس بسطاء العقول، فهم ينسبون إلى الرسول عليه الصلاة والسلام أنه يتحدث عن أمور غيبية دقيقة ودقيقة جداً، حتى هذا العلم الذي يفخرون به اليوم لم يدندن حول هذه الحقيقة بعد ولا استطاع، على الرغم من أن بعض المتحمسين يقولون: ثبت حديث الذباب علمياً، ونحن نقول: ثبت شيء منه، لكن التفصيل الذي تضمنه الحديث لم يتحدث عنه هذا العلم التجريبي التشريحي حتى الآن، ولعله يمكن أن يصل إليه يوماً ما؛ ذلك لأن العلم اليوم يقول: إن الذبابة تحمل في جناحيها وفي بدنها نوعاً من الجراثيم، وأظن أنهم يسمونها بالبكتيريا، وهذه الجراثيم تفتك وتقتل الجراثيم الضارة، هذا كل ما قاله الطب، وهذا فعلاً لم يكن معلوماً من قبل، لكن الحديث يأتي بتفصيل دقيق، يقول: الجرثوم القاتل في أحد جناحيه، والجرثوم القاتل للجرثوم القاتل في الجناح الآخر، هذا الطب لا يعرفه أبداً، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥] .

إذاً: كيف نقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا هو برأي من عنده؟! هذا لو قاله إنسان عني أنا، فسأقول: إنه يطعن فيّ؛ لأنه ينسب إلي أنني أقول رجماً بالغيب، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بمثل هذا الكلام! إذاً: ما دام أن الحديث صح فوجب الإيمان به، ووجب إدخاله في الدين، والدين ليس فقط عبادةً، وصلاةً، وحجاً، وإنما كل شيء جاء عن الله ورسوله، ورسوله قد أُقِّر على ما قاله ولو باجتهاد من عند نفسه فهو دين.

كذلك من خلال حديث آخر، والأحاديث في هذا كثيرة جداً: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت) هل يقول هذا إنسان اجتهاداً من عند نفسه؟ الجواب: لا يقول هذا إلا الدجالون، الذين يريدون أن يسيطروا على عقول الناس، وأن يبتزوا منهم أموالهم بالباطل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن ذلك، فهو إذاً يقول ما سمع من الله تبارك وتعالى.

لذلك فالأحاديث التي تصح عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد جاءت مقررة ولم تنسخ، ولا بخبر أن يقول: هذا رأي من عندي.

كما سمعتم في تأبير النخل؛ فحكمها حكم الصلاة والزكاة، وكل الأحاديث التي لها علاقة بشريعة الله تبارك وتعالى.

وهذه الأحاديث رواها أولئك الصحابة، والتابعون، والآخرون الذين جاءوا من بعدهم، الذين رووا لنا القسم الأول من الدين، والذي يريد هؤلاء الناس أن يجعلوه هو الدين كله، فنحن نقول لهؤلاء المحدثين المبتدعين في الدين كما قال سلفنا الأول للمبتدعين السابقين، حينما جاءوا ببدعة التفريق بين الحديث الذي له علاقة بالأحكام، وكان الراوي ثقة يحتج بهذا الحديث، وبين هذا الحديث أو مثل هذا الحديث الذي يأتي وليس له علاقة بالأحكام، وإنما له علاقة بالعقيدة، وله علاقة بالغيب، قال هؤلاء المبتدعة القدامى: لا نأخذ هذا الحديث حتى يبلغ مبلغ التواتر فرد