للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإيمان يزيد وينقص]

السؤال

يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى) ، وعنه مرفوعاً: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) ، وقال أحمد: عن ابن عباس أنه قال لـ ابن مالك: [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يخلع مرة واحدة أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه؟ وما تعليق فضيلتكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون أو لا يكون في حديث إيمان الزاني، هذا مع أنه يوافق مذهبهم كما يبدو وجزاكم الله خيراً؟

الجواب

الحديث الأول لا أذكر إذا كان ثابتاً أو لا، وهو: (إن الإيمان كثوب أحدكم يلبسه مرة ويخلعه أخرى) .

الذي يستحق التعليق في ظني على هذا السؤال هو الحديث المرفوع الذي ذكره السائل بعد الحديث المروي عن أبي هريرة المرفوع في الأول، هذا على أنه موقوف، فأنا لا أذكر إذا كان ثابتاً عن أبي هريرة أم لا.

أما الحديث الثاني وهو قوله عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان) ، هذا الحديث متمسك به لمن ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأرجو من السائل والسامع في آن واحد أن يكونوا أو يحاولوا أن يكونوا ممن تحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فهو ينبغي أن ينظر في الحديث نظرة صادقة عن تأييد مذهب على مذهب، فإذا كان هذا الحديث -كما يتوهم السائل- يؤيد مذهب الحنفية، فهل الحنفية يقولون: إن الزاني إذا زنى كفر؟ فالحديث نفسه لا يكون للحنفية خلافاً لما توهم السائل؛ (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ، هم الأحناف أنفسهم، وهذا في الواقع مما يقيم الحجة عليهم بكلامهم، لا يجدون تفسيراً لهذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وهو مفسر لهذا الحديث إلا على طريقة الجمهور من السلف الصالح الذين يقولون: إن الإيمان لا يعني الاعتقاد فقط، بل وفيه يدخل -أيضاً- العمل الصالح.

ومن هنا جاء اعتقادهم الآخر الصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا صريح في القرآن الكريم، ولذلك فقوله عليه السلام في الحديث المذكور: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) كيف تأوله الأحناف؟ قالوا: وهو مؤمن كامل الإيمان.

إذاً: الإيمان له مراتب وله درجات، يدخل فيه نقص وزيادة، فتأويلهم للحديث هو تأييد لرأي الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، وإن الإيمان من معناه العمل الصالح، إذا عرفنا هذه الحقيقة ورجعنا إلى هذا الحديث فلا يمكن أن يفسر هذا الحديث لا على مذهب الجمهور الذين يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، ولا على مذهب الحنفية الذين يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإنما هو حقيقة واحدة.

فقوله: (إذا زنى الزاني خرج منه الإيمان فكان كالظلة) نحن إذا نظرنا هنا إلى لفظتين: أولاً: الإيمان، وثانياً: الظلة، فهل نأخذ لفظ الإيمان بالمعنى الجامد الذي لا يقبل الزيادة والنقص؟ وهذا لا يقوله علماء السلف قاطبةً، وهنا بالذات لا يقوله الحنفية أيضاً؛ لأنهم لو قالوا: خرج منه الإيمان، معناها أنهم قالوا بقول الخوارج، وهو أن ارتكاب الذنب الكبير هو خروج من الدين، وهذا -والحمد لله- لا يقوله الحنفية، لذلك فهم سيضطرون إلى تأويل الإيمان مثلما أولوا الحديث الآخر: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أي: وهو مؤمن كامل الإيمان، فهنا يخرج منه الإيمان كله، أو الإيمان الثاني الذي يستلزم ألا يقع في مثل هذه المعصية.

هذا التأويل الأول، أن نقول: الإيمان يعني الإيمان الثاني، أما الإيمان المنجي من الخلود يوم القيامة فأقل منه بكثير ينجي، هذه اللفظة ينبغي النظر إليها -أولاً- لفهم الحديث على الوجه الصحيح.

اللفظة الأخرى: (فكان عليه كالظلة) هذا لا يعني أن الإيمان خرج منه خروجاً، حتى لو فسرنا الإيمان بالإيمان المطلق، أي: خرج الإيمان الكامل والناقص بحيث لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، لو فسرنا هذا التفسير -أيضاً- فلا يعني الحديث أن هذا الرجل خرج منه الإيمان وانفصل عنه بالكلية، أي: إنه مات موتاً معنوياً، صار كافراً، لا؛ لأنه خرج منه وصار متعلقاً به تعلق الظلة بالمستظل بها، وأقرب شيء نستطيع أن نفسر تعلق الإيمان والحالة هذه بصاحب هذه الجريمة، خروج الروح من الإنسان وهو نائم، وفرق بين خروج الروح من الإنسان وهو نائم فهو لا يزال حياً، لكن حياته غير الحياة الطبيعية وهو يقظ، وعلى العكس من ذلك خروج الروح من بدن الإنسان نهائياً، فيصبح بدنه كالخشبة، هكذا نستطيع أن نفرق بين خروج الإيمان كله من الإنسان فيموت موتاً معنوياً كما يموت الجسد في انفصال الروح منه انفصالاً كلياً، وبين أن يموت نصف موتة، أو بعض موتة -إذا صح التعبير- أن يخرج من الإنسان هذا الإيمان الكامل الذي لا يليق بهذا المجرم الذي ارتكب الزنا.

فإذاً: هذا خروج لا يزال الإيمان متعلقاً بصاحبه، كما لا تزال الروح متعلقة بصاحبها في حالة نوم الجسد ولا تزال الروح متعلقة، فإذاً خرج منه الإيمان الكامل ولم يخرج منه خروجاً مطلقاً بحيث لم يبق له علاقة، فإذا انقلع -هكذا جاء في اللفظ وأظن أنه أقلع- رجع إليه الإيمان.

وأخذ الحديث ودراسته دراسة سطحية ظاهرية، هذا أولاً: ليس من طريقة العلماء إطلاقاً، لا فرق بين الماتريدية والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الإيمان زيادته وعدم زيادته، وماذا يقول السائل في مثل الحديث الصحيح وهو أصح من هذا: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) هل نفسره هكذا على الظاهر، لا إيمان مطلقاً؟ لا أحد يقول هذا، لا حنفي ولا شافعي.

إذاً: لا إيمان كامل ولا دين كامل، كذلك هذا الحديث الذي يفسر ملاحظاً فيه الإيمان الكامل أولاً، وشيء زائد وهو أن يكون عليه كالظلة ليس منفصلاً عنه كلياً، لذلك إذا ما أقلع عن الذنب عاد هذا الإيمان إلى صاحبه؛ لأنه لم ينفصل عنه كلياً.

ومن هذا البيان والشبه أظن يؤخذ الجواب عن سؤال السائل حين أتبع ما سبق بقوله: وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: [من أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زانٍ إلا نزع الله منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده رده، وإن شاء أن يمنعه منعه] فهنا نزع الله منه نور الإيمان بُين المنزوع وليس هو الإيمان نفسه، وإنما نوره، وهذا بدل.

السائل: الأحاديث السابقة تدل حسب ما بدا لي على أن الإيمان يسقط مرة، أو ينفى مرة واحدة، فكيف يجمع بينها وبين الآيات التي تدل على زيادة الإيمان؟ الشيخ: قد عرفنا يا أخي الجواب! ما دام الإيمان يزداد وينقص فالمنفي هو الإيمان بالكامل، وليس أصل الإيمان، وقد ضربت مثلاً آنفاً واضحاً جداً: (لا إيمان لمن لا أمانة له) ومثله أحاديث كثيرة، لا إيمان كاملاً، وإذا أخذنا الأحاديث وفسرناها على ما يريد السائل تركنا مذهب أهل السنة جميعاً على ما بينهم من اختلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، والتحقنا بـ الخوارج الذين يكفرون المسلمين لمجرد وقوعهم في بعض المعاصي الكبيرة.

السائل: وما تعليل استشهادكم على مذهب الأحناف في موضوع أن الإيمان يكون مرة أو لا يكون بحديث إيمان الزاني، مع أنه يوافق مذهبهم، كيف يوافق مذهبهم؟ وهل الأحناف يقولون: الزاني يكفر؟ الشيخ: لا.

وقد فسرت ماذا يقول الأحناف، مما يؤيد أن الصواب في موضوع الإيمان هو ما يرجفون، ويكفي تنبيهاً للسائل أن الآيات التي أشار الشارع إليها صريحة في زيادة الإيمان، ولذلك إذا جاءنا الحديث الذي سأل عنه، أو حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فلابد من تفسير هذه الأحاديث تفسيراً يتفق مع النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، حتى نكون في حرزٍ وفي حصن من الانحراف يميناً أو يساراً، وأننا لسنا من الخوارج أو من المعتزلة والعياذ بالله تعالى!