[تبييت النية في صيام الفرض]
هنا حديث ثانٍ فيه بيان وجوب ما يعرف عند الفقهاء بتبييت النية لصوم الفرض وبخاصة صوم رمضان، لابد كل ليلة من تبييت النية، وهو قوله: وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة.
وفي هذا الحديث ما يشبه الكلام السابق، لكن الترجيح على خلاف ذلك؛ لأن الحافظ يقول: رواه الخمسة، وقد عرفنا من الدرس السابق أن المقصود من الخمسة من هم؟ أصحاب السنن الأربعة، والإمام أحمد هو الخامس، بينما في اصطلاح آخر رواه الخمسة: مسلم وأصحاب السنن الأربعة، هذا مصطلح المنتقى.
رواه الخمسة -أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد - قال الحافظ: ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه على حفصة، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني: (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) .
هنا يتكلم الشارح طويلاً في اختلاف الأئمة، في رفع الحديث ووقفه، وهناك كان الخلاف في وصل الحديث وإرساله، أما هنا فاختلفوا في وقفه ورفعه، فبعض الرواة قال: عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواة آخرون قالوا: عن حفصة قالت.
أي: حديث موقوف عليها لم ترفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فاختلف علماء الحديث وكل وما بدا له، ويؤيد المصنف قول من رجح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه قد أخرجه الطبراني من طريق أخرى -أي: مرفوعاً- فهذه الطريق الأخرى هي التي ترجح قول من رجح رفعه، وتجعل قول من رجح وقفه مرجوحاً، لكن هذا الحديث لم يذكر فيه الرسول عليه السلام رمضان، بل أطلق فقال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) ونحن قلنا في التمهيد لهذا الحديث: أنه من لم يبيت النية في صيام الفرض وبخاصة في شهر رمضان.
فمن أين جئنا بهذا القيد؟ هذا القيد جيء بالتوفيق بين هذا النص وبين حديث آخر رواه الإمام مسلم وغيره من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بعض نسائه غداة يوم فقال: (هل عندكم من طعام؟ قالوا: لا.
فقال عليه الصلاة والسلام: إني إذن صائم) فأنشأ النية في تلك اللحظة، وهنا معناه صراحة أنه ما بيت النية من الليل؛ لأنه كان يريد أن يأكل، لكنه لما لم يجد عليه الصلاة والسلام طعاماً يتغدى به اغتنمها فرصة، ما دام أنه سيعيش النهار بدون طعام فجعلها صياماً لوجه الله تبارك وتعالى، فقال: (إني إذن صائم) .
من هنا فرق جماهير العلماء بين صوم الفرض هل يجب فيه تبييت النية لكل ليلة؟ وبين صوم التطوع فلا يجب فيه التبييت وإنما يجوز إنشاؤه ضحوة، وهذا هو الأصح من مذاهب العلماء، وهو مذهب الإمام الشافعي، أما الأحناف فاقتصروا على القول بأنه يكفي أن ينوي لشهر رمضان كله نية واحدة، أول ما يدخل في أول ليلة من شهر رمضان فيكفي ذلك عن شهر الصيام كله بنية واحدة، لكن في هذا ما علمتم من الإهدار والإهمال لحديث حفصة أم المؤمنين.