[زهد الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا]
الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً قال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً -يعني: شيئاً من الفراش من تحتك تدفع به أثر الحصير في جسدك، يكون لك شيء طري من تحتك- فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) .
وفي هذا الحديث كناية عن أن الذي يكون في سفر، وعلى عجل، فينزل تحت شجرة ولا يؤسس ولا يبني تحتها؛ لأنه عما قريب راحل، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه حينما شبه نفسه في هذه الحياة الدنيا، في هذه العاجلة الفانية، كالرجل المسافر ينزل تحت الشجرة يستظل بها، فهو سرعان ما يرحل عنها ويدعها، ففيه حض على ألا يتكلب وألا يتمسك المسلم بهذه الدنيا وبحطامها وزخرفها وزينتها، اللهم إلا بمقدار ما يساعده على القيام بحق العبادة لله عز وجل، هذه العبادة التي من أجلها خلقنا كما قال ربنا عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦] .
هذا الحديث أيضاً صحيح، وقال المصنف في تخريجه: رواه ابن ماجة، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني ولفظه: هذا اللفظ طويل وفي سنده ضعف، ولذلك على الشرط السابق اجتنبته.
الحديث الذي بعده وهو صحيح أيضاً، وهو قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: (يا رسول الله! لو اتخذت فراشاً أوفر من هذا، فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب سافر في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها) رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي.
ومثلما تقدم قوله: وعنه -يعني: ابن عباس - قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره ... ) والإزار هو: الثوب الذي يغطي أسفل البدن، والرداء هو الذي يغطي أعلى البدن، وهذا أيضاً مما يصف فيه الراوي الرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لما دخل عليه لم يكن عليه من الثياب إلا الإزار الذي يغطي به عورته عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك يصف البيت والغرفة التي كان فيها، والفراش الذي كان جالساً عليه قال: [فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقرض في ناحية في الغرفة] هذا كل الزاد الذي يوجد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس هو إلا الحصير، والقبضة من الشعير، وقليل من القرض الذي كانوا يدبغون به الإهاب، أي: الجلود قبل دبغها قال: [وقرض في ناحية في الغرفة، وإذا إهاب معلق -كأن هذا القرض هيئ لدبغ هذا الإهاب- وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي] بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا ابن الخطاب؟! فقال: يا نبي الله! وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى من الشعير والقرض، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك -لماذا لا أبكي وأنت سيد البشر، وأنت في هذا الفقر، وأولئك الكفار ملوك كسرى وقيصر يعيشون في النعيم، في الحرير وفي الأنهار- قال: يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟) .
هكذا الحديث ينتهي هنا في هذا الكتاب، ولكن يجب أن يستدرك عليه زيادة ابن ماجة، (قلت: بلى) هذه الزيادة لم ترد في الكتاب هنا في هذه النسخة، فتستدرك عند من كانت عنده نسخة كنسختي، قال: (يا ابن الخطاب! أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ قلت: بلى) رواه ابن ماجة بإسناد صحيح، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
عندي هنا استدراك على هذا التخريج، قلت: وفي استدراكه على مسلم وهم، وفي عزو المصنف لـ ابن ماجة تقصير، فقد أخرجه مسلم في الجزء الرابع في الصفحة الثامنة والثمانين بعد المائة، إلى التاسعة والثمانين بعد المائة في قصة اعتزاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نساءه بلفظ ابن ماجة وإسناده.
إلى آخر التعليق.
فالمصنف عزاه فقط لـ ابن ماجة ثم للحاكم، وذكر أن الحاكم صححه على شرط مسلم.
وهنا وهم من جهة الحاكم، وتقصير من جهة المؤلف، فالوهم من جهة الحاكم لأنه خرّج هذا الحديث في كتابه المستدرك، وقال: صحيح على شرط مسلم، وإنما يخرج في كتابه المذكور ما لم يأت في صحيح البخاري أو صحيح مسلم، ويكون الحديث على شرطهما أو شرط أحدهما، ففي هذه الحالة يورد الحديث ويقول: صحيحٌ على شرط البخاري، أو صحيح على شرط مسلم، فهذا الحديث استدركه الحاكم وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم، وفاته أن الإمام مسلم رواه في صحيحه، كما رواه الحاكم في مستدركه، ومن هنا يتبين تقصير المصنف؛ حيث اقتصر في تخريج الحديث على عزوه لـ ابن ماجة والحاكم، وكان الأحق أن يعزى لـ صحيح مسلم، ولكن بُعد المخرج عن مظنة الإنسان أبعد المصنف عن أن يستحضر عزوه لـ صحيح مسلم؛ لأن مسلماً إنما روى هذه القطعة بمناسبة اعتزاله عليه الصلاة والسلام لنسائه، في قصة معروفة أخرجها مسلم بكاملها.
وفي تضاعيفها لما بلغ عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتزل نساءه، جاء إليه ليواسيه عليه الصلاة والسلام، أو يساعده على ما هو فيه، فلما دخل عليه رأى ما جاء في هذه الرواية، وفي هذه القصة بتمامها جاء هذا المقدار منها في صحيح مسلم، فلم يتنبه لذلك الحاكم، ثم المؤلف، وهذا يقع لكل مؤلف؛ لأن العصمة لله وحده سبحانه وتعالى.