[الإسبال يشمل البنطلون والجبة وغيرهما]
وهذا يجرني إلى أن أركز على أنه لا ينبغي لإنسان أن يتمسك بلفظية الحديث؛ فلفظ الحديث: (إزار) ، فقد يقول إنسان: إن البنطلون ليس إزاراً! فنحن نقول: صحيحٌ أن البنطلون ليس إزاراً، بل ليس لباساً إسلامياً مطلقاً؛ ولكن إذا كان اللباس الإسلامي وهو الإزار وهو اللباس الذي ليس فيه أي تكلُّف وأي تصنُّع، ولا جرم فقد جعله أن الله عز وجل -لذلك- لباساً للحاج والمعتمر، إذا كان هذا اللباس إذا أطاله الإنسان فوق الحد المشروع جوازاً على الأقل فهو آثم وفي النار، فأَولى ثم أَولى أن يأثَمَ هذا الإثْمَ وأكثرَ منه الذي يلبس لباس الكفار وهو بالبنطلون.
ويؤكد لكم هذا أن هناك حديثاً يذكر أن الإسبال الذي في الإزار حكمه أيضاً في القميص وفي ذيل العمامة، فإطالة الثوب ليست خاصةً بالإزار في هذا اللفظ ليكون البنطلون خارجاً عن هذا الحكم؛ لأن العمامة التي لها عَذَبَة من الخلف إطالتها أيضاً تدخل في هذا الحكم، وكذلك القميص الذي كله جائز على المسلمين أيضاً يدخله الإسبال المنهي عنه.
فهذه كلها أمور جاء بها الإسلام، فأصبحت اليوم نسياً منسياً.
ونقول في مناسبات كثيرة: السبب في ذلك يعود إلى أمرين اثنين: أولُُهُما: بُعْدُ أهلِ العلمِ عن دراسة السنةِ وتدريسِها.
ثانيهما: إهمالُ الأحكامِ الشرعيةِ وتطبيقِها.
هذه الآفة منتشرة جداً مع الأسف الشديد في مصر بين أهل العلم، إذ لا يمكن -في تلك البلاد- أن تجد عالماً بغير تلك الآفة! وشعار العالم هناك العمامة البيضاء، وهي -كما ذكرنا لكم- عادة وليست سنة تعبدية، على أنها لم تكن على هذه الصورة التي تطورت وأصبحت تارة عبارة عن قطعة قماش ذراعاً أو ذراعين أو عشرة أذرع، أعني: على النقيض.
فبعض المشايخ خاصة في مصر عمائمهم بسيطة جداً؛ لكنها على كل حال شعار العلماء والفقهاء عندهم، بخلاف بعض البلاد.
وهنا نرى بعض النماذج كما قال محمد عبده رحمه الله: (عمامةٌ كالبرج وجُبَّةٌ كالخُرج) ، فهناك في مصر هذه الظاهرة: عمامة وجُبَّة، وأيضاً الأكمام واسعة جداً؛ لكنها طويلة وطويلة، تكاد تَمَس الأرض، ولا يمكن أن ترى عالِماً هناك إلا وَجُبَّته طويلة، والجبة في اللغة غير الإزار، فالإزار يقابله الرداء، والإزار بمعناه العامي: فوطة، وهي التي يشدها الإنسان في وسطه.
فالجبة ليست إزاراً بطبيعة الحال، بل هي أكثر من إزار؛ لأنها تكسو البدن من فوق إلى أسفل، فما قيل في الإزار يشمل الجبة، ولو كانت هذه جُبَّةً وليست إزاراًً؛ لأن الغرض واضح جداً، وهو الخلاص من مظاهر الكبر والبطر؛ فهنا -في الحقيقة- أمران اثنان وهما: - أن يطيل الإنسان ثوبه مهما كان اسم هذا الثوب، ويقصد بذلك الكبر والبطر والعنجهية.
هذا شيء.
- وشيء آخر: ألا يقصد ذلك؛ ولكن ما يلبسه مما هو طويل، ويلبسه عادة المتكبرون المتجبرون، فهذا مظهر يدل على ذلك، ولو كان قصده على خلافه.
فَنَهْيُ الرسولِ صلوات الله وسلامه عليه عن إطالة الإزار يعني بتر وقطع هذه المظاهر، سواءً كانت بقصد سيئ أو ليس هناك قصد سيئ؛ لأن هناك منهجاً وضعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك نجده يهتم بهذه المظاهر المخالفة للشريعة في أصحابه، وأنا لا أتصور خاصة مثل حذيفة بن اليمان أنه قد أطال إزاره وهو يقصد الكبر والعنجهية؛ ولكن الأمر كان من الأمور التي لا يهتم بها بعض الناس، وربَّما كان لا يعلم أن الإسلام يؤكد حتى على من ليس ينوي ذلك المقصد السيئ على ألا يطيل ثوبه؛ وقد قال لـ حذيفة: (فما طال دون ذلك فلا حق للإزار) .
وقال لأمثال حذيفة: (لاحق للإزار في الكعبين) .
ولآخرين قال صلى الله عليه وسلم:: (فإن طال ففي النار) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جداً.
والحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله قد تكلم عن هذه القضية بكثير من الفقه، ومن الأشياء التي استفدتُها منه -وهذه في الواقع يجب أن تفهموها، وأن تجد مكاناً في قلوبكم لتفهموا هذه الحقيقة-: أنه يَذكر أن في بعض الأحاديث، -وهذا مر بنا في بعض الدروس- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: (مَن جَرَّ إزاره خيلاء لم ينظر الله عز وجل يوم القيامة إليه، أو: لا ينظر الله تبارك وتعالى إليه يوم القيامة) ، لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الحديث، فهَمِتْ إحدى النسوة وأظنها أم سلمة بأن هذا الحديث يدخل فيه النساء أيضاً، وهذا هو اللسان العربي الأصيل، لأن (مَن) من ألفاظ الشمول والعموم، (مَن جَرَّ) سواء كان رجلاً أو امرأة، وعلى هذا الفهم الصحيح توجهت بالسؤال إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: (يا رسول الله! إذاً تنكشف أقدامنا -أي: أقدام النساء- قال: فتطيل شبراً -حتى تتحقق السترة التي أمر الشارع الحكيم بها بالنسبة للنساء- قالت: يا رسول الله! تأتي ريح فترفع الثوب، قال: تطيل شبراً -أي: ثانياً-، ولا تزدن عليه) .
الشاهد هنا مما لفت النظر إليه الحافظ ابن حجر: إذا كانت المرأة لا يجوز لها أن تزيد على ما أَذِن الشارع به، فأَولى ثم أَولى ألا يجوز للرجل أن يزيد على ما أَذِن الشارع به في إطالة الثوب، وذلك إلى ما فوق الكعبين، وهذا هو الحد الأخير (فما أسفل الكعبين فهو في النار) كما قال عليه الصلاة والسلام.
هذا هو الذي أردت أن أذكِّر به بمناسبة هذا الحديث الثاني.
وللأسف واقعنا اليوم يخالف هذا التوجيه النبوي الكريم!