للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كراهية الرسول صلى الله عليه وسلم للقيام له]

وذلك أيضاً مما رواه إمام الأئمة في الكتاب السابق الذكر: الأدب المفرد:، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك] إذاً: أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقومون لسيدهم، بل سيد الناس جميعاً تُرى أهذا استهتار منهم وعدم مبالاة بتعظيم الرسول عليه السلام، وإكرامه الإكرام الذي يليق ويجوز شرعاً، أم هو تجاوب منهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أفهمهم بأن هذا القيام هو من عادة الأعاجم، وقد نهوا -كما أشرنا في مطلع هذه الكلمة- في أحاديث جمة عن التشبه بالكفار؟ فلاشك أن عدم قيامهم للرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان من احترامهم له وتعظيمهم له؛ لأن الله عز وجل يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حق الاتباع يستلزم أن يعرض الإنسان عن أهوائه وعن عواطفه تجاه أمر نبيه صلى الله عليه وآله سلم وسنته، لذلك كان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقومون له، لماذا؟ الجواب في نفس الحديث: لما يعلمون من كراهيته لذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره من أصحابه أن يقوموا له، تُرى لماذا؟ بعض الناس ممن اعتادوا مخالفة هذه السنة ممن يقومون لغيرهم، وممن يقام لهم، يتأولون هذا الحديث بغير تأويله، ومع ذلك فتأويلهم هذا يعود عليهم لا لهم، يقولون: لما يعلمون من كراهيته لذلك، أي: الرسول عليه الصلاة والسلام كان متواضعاً، كان أشد الناس -بلا شك- تواضعاً، فمن تواضعه أنه لا يحب أن يقوم الصحابة له.

نحن لا نسلِّم بهذه العلة، نحن نسلِّم أن الرسول عليه الصلاة والسلام -بلا شك- أشد الناس تواضعاً، لكن لا نسلم أبداً بأن هذه هي العلة، وسنذكر ما هي العلة، لكن نقول لهؤلاء المتأولين بهذا التأويل: فما بالكم أنتم لا تتواضعون تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ألستم أنتم أولى بأن تتواضعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال للناس: (صلوا عليّ) وكما يقولون: كلام يجر كلام (صلوا عليَّ) أتدون ما المعنى؟ يعني: ادعوا لي بأن الله يزيدني شرفاً ومجداً، وعلواً ومنزلةً، هذا قد يخالف التواضع، لكننا نحن نقول: حينما يأمر الناس بأن يصلوا عليه، إنما يأمرهم بأمر الله له أن يأمرهم بأن يصلوا عليه؛ لأن ذلك أقل ما يستحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بسبب أنه كان هداية للناس، كما قال تعالى في القرآن: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يتواضع هذا التواضع فلا ضير عليه، لكن أنتم عليكم الضير كله؛ لأنه يخشى عليكم الفتنة، يخشى عليكم أنكم إذا اعتدتم من الناس أن يقوموا لكم أن يدخل الشيطان فيكم -الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم- أن يدخل الشيطان دخولاً خاصاً، فيغير من أخلاقكم ومن عاداتكم وطباعكم، فيصبح أحدكم إذا دخل المجلس وقاموا له، ورأى واحداً في المجلس لم يقم له فكأنما كفر بالله ورسوله.

ماذا فعل هذا الإنسان؟ أقل ما يقال كما تقدم آنفاً: إن له أن يقوم وله ألا يقوم، فهذا لم يقم، فلماذا قامت عليه القيامة؟ لأنهم فهموا أن هذا القيام دليل احترام، وتركه دليل إهانة وعدم إكرام، فيا ترى هل كان الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكرمونه؟! أكانوا يهينونه بترك القيام؟! حاشا وكلا! لكن لما انحرف الفهم الصحيح لهذا الحديث: (لما يعلمون من كراهيته لذلك) انحرف بهم الأمر فقالوا: الإكرام بالقيام لا بأس به ولماذا كان أصحاب الرسول لا يقومون للرسول؟ تواضعاً منه، هكذا يقولون، نقول: تشبهوا برسول الله واقتدوا به، وتواضعوا تواضعه، ولا تطلبوا من أصحابكم أن يقوموا لكم، بل أشيعوا بينهم أنكم تكرهون القيام، وماذا تكون النتيجة والعاقبة؟ كما كان الأمر بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة، يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام المجلس ولا أحد يقوم له، فهل هذا إهانة له؟ حاشا! وإنما هو إكرام له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يأمرهم بذلك، فلو أننا نحن الذين ننتمي إلى العلم، وننتمي إلى التمسك بهذا الدين، وسلكنا سبيل الرسول عليه الصلاة والسلام في كل شيء، ومن ذلك: أن نكره ما كرهه عليه السلام خاصة، من مثل هذه الآداب الاجتماعية التي تفسد القلوب وتفسد الأخلاق، لكنا في مجتمع ليس كهذا المجتمع، ولكنا في مجتمع ليس فيه تقاليد الأعاجم الكفار.

أما الجواب الصحيح لقول أنس بن مالك السابق الذكر: [لما يعلمون من كراهيته لذلك] فهي كراهية شرعية، فالرسول يكره هذا القيام، لأنه من عادة الأعاجم، وقد سمعتم آنفاً حديث جابر، وعندما وقفوا خلف الرسول عليه السلام قياماً لمن؟ ولماذا؟ تحقيقاً لنص القرآن الكريم: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨] إذاً: هم لم يقوموا لمحمد عليه الصلاة والسلام القاعد في صلاته مضطراً، وإنما قاموا لله رب العالمين، فنيتهم تعظيم الله عز وجل لا غير، ماذا فعل معهم الرسول عليه السلام؟ ما صبر حتى انتهى من صلاته، وإنما عجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأشار إليهم في الصلاة بيده أن اجلسوا، وبعد الصلاة شرح لهم بلسانه وبيانه فقال: (إن كدتم لتفعلن آنفاً فعل فارس بعظمائها، يقومون على رءوس ملوكهم) .

وهناك فرق كبير كما يبدو لكل إنسان يسمع بهذا الحديث بين ملوك فارس، كسرى يجلس على عرشه (المطنطن المفخم) ، وحوله حاشيته ووزراؤه قياماً، وهو يجلس تعاظماً، وهم يقومون تعظيماً له أين هذه الظاهرة من جلوس الرسول عليه السلام في الصلاة وليس خارج الصلاة، ومضطراً وليس اختياراً، وقيام الصحابة أيضاً في الصلاة وليس في المجلس أيضاً هم مضطرون طاعة لله رب العالمين، يقومون لله قانتين أين هذه الظاهرة من تلك؟ شتان ما بينهما، ومع ذلك قال لهم عليه الصلاة والسلام: (إن كدتم لتفعلن فعل الأعاجم مع ملوكم، يقومون على رءوس ملوكهم) ، فلم يقولوا: يا رسول الله! هم يقومون تعظيماً لملكهم؛ لأنهم يفهمون أن هناك أموراً محرمة لذاتها وأموراً أخرى محرمة لغيرها؛ لأنها تؤدي إلى شيء محرم، من ذلك: تبني المسلمين عادات الأجانب والأعاجم، فمن هذه العادات: هذا القيام الذي ابتلي به جماهير المسلمين اليوم، والسبب تعرفونه جميعاً وهو الابتعاد عن السنة وعن الاهتداء بهدي السلف الصالح، وهذا بحث طويل، وأنا لا أريد الاستمرار فيه، لنفرغ المجال لضيفنا الكريم ليلقي ما شاء الله عز وجل أن يلقي عليكم من الفوائد، وإنما أختم هذه الكلمة بقصة فيها علل وفيها طرافة وفائدة: