للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد]

السؤال

قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:١٦٦] هل يعني اتباعه التقليد الأعمى هنا؟ إذا كان كذلك فما الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد؟ وهل المجتهد يلزم الناس باتباعه، أم أنه لنفسه فقط؟ وهل بمقدورنا أن نجتهد حتى نستغني عن المذاهب ونكتفي بهذا؟

الجواب

أولاً: الاتباع من حيث اللغة أعم من أن يكون في الخير أو في الشر، فيأتي في الخير ويأتي في الشر، وهنا كما ترون جاء بمعنى الشر: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:١٦٦] لكن كون الاتباع هنا جاء في الشر لا يعني أنه يأتي دائماً في الشر، فهناك آيات كثيرة أتى فيها الاتباع بمعنى الاتباع في الخير، وأشهر آية وأقرب تناولاً لأفكارنا قوله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] .

إذاً: الاتباع من حيث اللغة ليس خاصاً لا في الخير ولا في الشر، فالاتباع يفسر بالنظر إلى الموضع الذي جاءت فيه اللفظة، ففي الآية التي تخالف هذا العمل من الواضح أن الاتباع كان في الشر، والآية التي تلوتها عليكم من الواضح أن الاتباع في الخير؛ لأن الله عز وجل يجعل دليل محبة نبيه ومحبة الله لنا اتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الاتباع في الخير.

إذاً: القضية من حيث اللغة ليست دلالة خاصة في الخير أو في الشر، لذلك لما قال السائل: هل يعني اتباعه التقليد الأعمى هنا؟ إذا كان كذلك فما الفرق بين المتبع والمقلد والمجتهد؟ نقول: الفرق هنا اصطلاحي، بعد أن عرفنا أن الاتباع في اللغة أعم من أن يكون في الخير أو في الشر، فحينما يقال مجتهد، وحينما يقال متبع، وحينما يقال مقلد، هذا اصطلاح، فما معنى كلمة (مقلد) من حيث اللغة؟ المقلد هو الذي قلد غيره القلادة، لكن استعير هذا المعنى إلى المسلم الجاهل الذي يقلد بدينه غيره.

كذلك الاتباع أو المتبع، فميز في هذا العلماء المحققون الذين يدعون إلى تنوير الأذهان بإبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لأهله، وليكذب بعد ذلك من شاء، وليفتر عليهم من يقول: إن الاجتهاد مفتوح حتى للعوام، هذا كذب وبهت ومحض افتراء، نقول: أولئك العلماء الذين يرون بأنه من الخير بل من الواجب بقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لأهله، هؤلاء باجتهادهم وفهمهم وجدوا أن الناس ليس بمثابة واحدة من غير المجتهدين، بمعنى أنهم رأوا من الظلم جعل غير المجتهدين مقلدين؛ لأن التقليد معناه في الاصطلاح العلمي هو الذي يدل عليه في الأصل الاشتقاق اللغوي، هو التقليد الأعمى دون أن تعرف وجهة نظر هذا العالم الذي يقول هذا حرام، أو هذا حلال، أو هذا فرض، أو هذا سنة، هو يقول لك كذا وأنت تقول له بلسان الحال: آمين، صدقت.

هذا هو التقليد الأعمى، وليس كل الناس هكذا، فأناس عندهم شيء من العلم، وشيء من الفهم والإدراك، بحيث أنه إذا عرض عليه قولان لعالمين جليلين من علماء المسلمين دليل هذا كذا ودليل هذا كذا، يعي العقل ويفهم دون أن يبحث في بطون الكتب والآيات والأحاديث، وصحيح وضعيف، ومؤول وغير مؤول، إنما يسمع ليرى بعد ذلك رأيين أو أكثر بأدلة كل رأي، فيميز هذا على هذا، ويرجح هذا على هذا.

لكن إذا عرضت مثل هذا العرض على عامة الناس، فماذا يعرفون عن السنن؟ يكونون حيارى؛ كما سيأتي إن شاء الله في الدرس الآتي أو الذي بعده، لو ناقشنا مسألة ما وكل واحد يرى أن الحق معه، هو معذور تماماً، لكن الذين عاشوا في الدعوة السلفية قدراً من الزمن، وعرفوا كيف ينبغي أن يعيش العامي السلفي لا يقع في هذه الحيرة الخلاصة: هل يستوي عندنا مثلاً بعض إخواننا الأفاضل؟ هل هذا الإنسان نعامله كمعاملة رجل من عامة المسلمين لا يعرف الألف المطوية -كما يقول العامة هنا- بينما هذا قد درس علم اللغة وعلم الحديث، وأخذ شهادة كلية الشريعة، هل هذا كهذا؟ لا يستويان مثلاً؛ لذلك هذا الواقع حمل هؤلاء الأئمة المحققين أن ينصفوا الذي هم فوق مستوى عوام المسلمين وجهلتهم ومقلدتهم، فأطلقوا عليهم متبعين، كي يفرق بين المقلد الذي لا يعرف إلا قال الشيخ فقط، لكن الثاني يقول لك: قال الشيخ وعلته كذا، ورد عليه فلان وعلته كذا، لكنه حديث ضعيف، لكن هذا تأويل، وهذا خلاف الأمر.

إلخ، فيميز هذا الإنسان، وننزله بالمنزلة التي وضعه الله فيها، لا نجعله مع عوام المسلمين، فهذا ظلم مبين.

لذلك اقترح العلماء فجعلوا مراتب العلم ثلاثة: المرتبة الأولى: الاجتهاد، وهو أرقى المراتب، وهو الذي يتمكن من فهم المسألة مباشرة من الكتاب والسنة.

المرتبة الثانية: الاتباع، يتمكن من فهم كلام المصيبين وأدلتهم بعد عرضها والاطلاع عليها واتباع الدليل الأقوى ممن دونه.

المرتبة الثالثة: المقلد، مثل العوام تماماً، فهذا تقول له: هذا حرام، يقول: آمين، تقول: حلال، يقول: آمين.

ولذلك فمن الجهل بل من الغباوة أن نسوي بين متخرج من كلية الشريعة، فضلاً عن مدرس في كلية الشريعة، وبين الرجل الجاهل الذي لا يعرف من العلم ولا من الفقه ولا من الحديث شيئاً، الذي يقول هذا يظلم نفسه قبل أن يظلم غيره، وذلك هو الظلم المبين.

هنا سؤال مهم: هل المجتهد يلزم الناس باتباعه أم أنه يجتهد لنفسه فقط؟ الجواب: مثل هذا السؤال يدفع إليه أمران متناقضان في هذا الزمان: الأمر الأول: أن المقلد اليوم والمتمذهب جميعهم يتوهمون أن الأئمة الأربعة دعوا الناس إلى اتباع مذاهبهم، وهذا خطأ وافتراء عليهم، وما ثبت عن إمام من أئمة المسلمين أبداً، لا هؤلاء الأربعة ولا من قبلهم ولا من بعدهم، أنهم دعوا الناس جميعاً إلى اتباعهم في الحرف الواحد، حاشاهم من ذلك! كيف وابن مسعود كان يقول: [هذا رأيي فمن كان عنده خير منه فليأتنا به] .

كيف يقال أن الإمام المجتهد ألزم أتباعه باتباعه، أليسوا يقرءون: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:١٦٦] ؟! ولا يقولنّ منحرف عن السنة: هذه الآية نزلت في الكفار.

نعم، الله أنزلها في الكفار، ونحن لا نعمل عمل الكفار، لا نتبع أئمتنا على عمى وإنما على بصيرة، ومن هذا العمى أن ننسب إلى الأئمة شيئاً ما قالوه، هم ما قالوا على أحد من أتباعهم الأولين ما لم يقولوه، وأيضاً إذا زعمنا هذا، إذاً هم -لا سمح الله لا سمح الله لا سمح الله- طواغيت، يدعون الناس إلى اتباعهم من دون اتباع الإسلام، فهل يظن المسلم شيئاً من هذا في أئمة المسلمين؟! لا أعرف! لكن لازم هؤلاء عندما يقولون: دعوا أتباعهم لاتباعهم، لازمهم أن هؤلاء طواغيت، ونحن نبرئهم من ذلك، وهذا الفهم الخاطئ نتج منه فهم خاطئ جديد، وهو أن هؤلاء المتبعون أمثالنا يدعون المسلمين إلى الكتاب والسنة، وعلى منهج سلف الأمة، يقولون عنا بأننا مجتهدون، ونحن لا ننكر ولا نهاب ولا نخاف، نحن نجتهد في كثير من المسائل التي تحدث اليوم حيث لا يستطيع المقلدون أن يجتهدوا فيها، ونحن نقول على عين بصيرة: لا ترد المسائل التي اختلفوا فيها، وكل إمام وكل أتباعه مع الزمن يبين ما عندهم من أدلة صحيحة وغير صحيحة، هذه تعرض أمامنا ونحن ليس لنا إلا الاختيار.