هاهنا مسألة حديثية فيها دقة، وكثير من المشتغلين بعلم الحديث اليوم لا يتنبهون لها لدقتها، وهي: إذا كان هذا الحديث قد رواه بعض الرواة موصولاً، أي: عن عكرمة عن ابن عباس، والبعض الآخر رووه عن عكرمة دون ذكر ابن عباس، فهنا قاعدة تذكر بمثل هذه المناسبة: أن الذي ذكر ابن عباس قد جاء بزيادة بالسند على الذي لم يذكر فيه ابن عباس -على الذي أرسله- ومن المعلوم عند علماء الحديث: أن زيادة الثقة مقبولة، فلماذا رفضت هذه الزيادة من هنا في هذا الحديث وصرح الحافظ نقلاً عن النسائي أن الراجح الإرسال؟ لماذا لم يقبل قول من قال: عن عكرمة عن ابن عباس، وهذه زيادة؟
الجواب
إن قاعدة (زيادة الثقة مقبولة) ليست على إطلاقها، وهنا موضع الدقة، زيادة الثقة تقبل حينما يكون الذي جاء بالزيادة إما مثل الذي لم يأت بها أو خيراً منه.
أما إذا كان الذي جاء بالزيادة فردٌ، والذين لم يأتوا بالزيادة جماعةٌ؛ فهنا لا ترد هذه القاعدة، وزيادة الثقة مقبولة ولا ترد هنا، وإنما هنا يرد أن هذه الزيادة شاذة؛ لأن الحديث الشاذ: هو أن يروي الثقة ما خالف فيه غيره من الثقات، أو على الأقل خالف فيه من هو أوثق منه، حين ذاك الزيادة لا تُقبل، إنما تُقبل زيادة الثقة إذا كان الزائد مثل الذي لم يزد أو أحفظ منه، أما إذا كان الزائد دون الذي لم يزد في الضبط والحفظ، أو أقل عدداً من الذين لم يأتوا بالزيادة؛ حينئذٍ الزيادة يحكم عليها بالشذوذ، ولا يقال فيها: زيادة الثقة مقبولة؛ ولهذا نجد كثيراً من الأحاديث إذا دُرست بالنظر إلى طريق رجال إسناده كلهم ثقات وهو متصل، إذا دُرس هذا السند بالذات قيل: إنه إسناد صحيح، ولكن إذا ما نظر إلى هذا الإسناد من طرق أخرى انكشف لنا أن الطريق الأول فيه راوٍ ثقة خالف فيه جماعة من الثقات، هذه المخالفة حين ذاك تجعلنا نغير نظرتنا السابقة.
أعيد الكلام يأتي الحديث أحياناً من طريق ثقة من الثقات بسند صحيح إليه، وهذا الثقة يرويه أيضاً بإسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال في هذا السند: إسناده صحيح.
ولكن الثقة الذي دارت طرق الحديث عليه -اختلف الرواة عليه- فالإسناد الأول جاء عنه بإسناد صحيح -كما قلنا- ثم جاءت أسانيد أخرى وإذا بهذه الأسانيد الأخرى تبين أن في الإسناد الأول علة، ويمكن هذا التصوير من صور كثيرة جداً، ولنقل مثلاً: الإمام الزهري وهو أشهر من أن يذكر، يروي كثيراً عن سعيد بن المسيب، وهو يروي عن أبي هريرة، فيأتي ثقة يروي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، فماذا يكون هذا الإسناد؟ يكون صحيحاً، ولكن لما يتسع الباحث في دراسة هذا الحديث بهذا الإسناد، وإذا به يجد ثقاة آخرين شاركوا الثقة الأول في رواية الحديث عن الزهري لكن خالفوه في الإسناد، فقالوا مثلاً: عن الزهري عن سعيد المسيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لم يذكروا أبا هريرة، فهل يقال هنا أو هل نظل نقول: إن الحديث إسناده صحيح باعتبار أن الثقة الأول رواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة وزيادة الثقة مقبولة؟ أم نقول: لا.
هذا الثقة الذي زاد في السند وذكر فيه أبا هريرة قد خالف الثقات الذين رووه جميعاً عن الزهري عن سعيد مرسلاً؟ يقال: نعم.
رواية الثقات هنا هي الراجحة، فيكون الحديث معللاً بالإرسال.
هذا هو واقع حديث ابن عباس، فحديث ابن عباس مداره على عكرمة عن ابن عباس، رواه الثقة، وجاء الآخرون فرووه عن عكرمة مرسلاً، من أجل ذلك رجح الإمام النسائي إرساله.
وبعد معرفة أن هذا الحديث ضعيف بعلة الإرسال؛ حينئذ يظهر لنا الفرق بين دلالة الحديث الأول الصحيح وبين دلالة الحديث الآخر الضعيف، فإن الأول يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة عبد الله بن عمر المعروف عنده بالعدالة والصدق والضبط ونحو ذلك، بينما الحديث الثاني قبل شهادة الأعرابي الذي لم يعرف إسلامه إلا ساعة الشهادة، فهذا فيه تساهل كبير، فلو أن الحديث صح كان سيعطينا حكماً زائداً على الحديث الأول، لذلك فنحن لا نبني عليه حكماً، وإنما نقتصر في استنباط الحكم السابق من الحديث المتقدم من رواية ابن عمر رضي الله عنه.