درء التعارض الموهوم بين قوله تعالى: (وقال الظالمون ... ) وحديث عائشة أن النبي سُحِر
السؤال
هل هناك تعارض بين حديث الآحاد الذي يبين أن الرسول عليه السلام قد سُحر، وبين الآية التي تقول: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٨] ؟ وإذا كان قد سُحر فهل يعني أنه قطع الذهاب إلى المسجد وتبليغ الرسالة، والرسول معصوم عن أذى الناس؟
الجواب
المسألة تطرقنا لها كثيراً، ولذلك أحاول الإجابة عنها باختصار بقدر الإمكان.
نحن نقول: ليس هناك تعارض بين حديث الرسول عليه السلام، وبين الآية التي تقول: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٨] ؛ لأن الذي يعنيه الكفار الذين قالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٨] غير ذلك الذي يعنيه حديث عائشة بأن الرسول عليه السلام سحره رجل يهودي.
فالذي يعنيه الكفار القائلون للمؤمنين: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٨] إن تتبعون إلا رجلاً سُحر، وأثَّر فيه السحر حتى لا يشعر بما يخرج من فيه من خلطٍ في الكلام واضطراب، ونحو ذلك مما ليس من طبيعة العقلاء.
ولذلك بعض المفسرين فسروا (مسحوراً) أي: (مجنوناً) بمعنى أن السحر الذي زعموه فيه أثَّر فيه حتى جعله مجنوناً غائباً عن وعيه، هذا هو المعنى الذي ألصقه الكفار الظالمون بالرسول عليه السلام، وليس منه لا قليل ولا كثير في حديث السحر الذي يصفه السائل بأنه حديث آحاد، ولو كان هذا الحديث حسناً فقط، فلا تعارض بينه وبين الآية السابقة، للسبب الذي ذكرناه آنفاً: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:٨] مجنوناً: أي: لا يعي ما يقول، والحديث لا يقول هذا الشيء إطلاقاً.
وكل شيء في الحديث هو أن الرسول عليه السلام أثَّر فيه السحر من الناحية الجنسية، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان قوياً في كل شيء، حتى في بدنه، وما قصة مصارعته ل ركانة وصرعه إياه بغريب عنكم، ومن أجل ذلك جاء في صحيح البخاري أن الصحابة كانوا يتحدثون بأن الرسول عليه السلام أعطي قوة أربعين رجلاً وليتناسب تماماً مع هذه القوة التي خصه الله بها أن استطاع أن يضم وأن يجعل تحت عصمته تسعاً من النساء أو أكثر أحياناً، وكان يطوف على النساء كلهن في ليلة واحدة، ولا حياء في الدين، ولا عيب في رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقاً في هذا، وإن كان الكفار من المستشرقين وأمثالهم من المتوردين من المسلمين، يجعلون ذلك طعناً في الرسول عليه السلام، ولا مطعن في هذا، والحكمة البالغة من جمع الرسول عليه السلام لهذا العدد من النساء معروفة لديكم أو لدى الكثير منكم.
فهذه القوة التي كان يتمتع بها الرسول عليه السلام كأنها أغارت اليهود، وحق لهم ذلك؛ لأن هذه القوة كانت حجراً في أعينهم، قذى في أعينهم، ولذلك سلطوا لبيداً اليهودي فسحر الرسول عليه السلام، فوهن وذهبت تلك القوة، فكان يأتي أو يحاول أن يأتي نساءه وإذا به لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ليس كعادته، بل كان يخيَّل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيها، هكذا في رواية صحيح البخاري، وهي رواية مفسرة تأتي على الشبه التي يتشبث بها كثير من كتاب العصر الحاضر، من الذين لا يتعمقون في دراسة الآية أولاً، ثم في دراسة الحديث ثانياً، ولذلك يظهر التعارض بين الآية والحديث ولا تعارض إطلاقاً.
ومما يؤكد لكم ذلك: قول هذا السائل المتشبع بما يقرأ من كتابات العصر الحاضر، يقول في آخر سؤاله: والرسول معصوم عن أذى الناس.
هذا كلام من الناحية الإسلامية خطأ، فإذا كان الرسول معصوماً عن أذى الناس، فهذه السيرة التي نقرؤها أنه جرح في غزوة أحد، وكسرت رباعيته، وو إلخ، ووضعت سلا الجزور وما فيها من قذر على ظهره وهو يصلي في الكعبة، كيف يقول مسلم: إن الرسول عليه السلام معصوم من أذى الناس؟ ذلك لأنه شبه عليه الأمر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] .
فهو فهم (والله يعصمك من الناس) أي: من أذاهم، وهذا تفسير خاطئ، والتاريخ الإسلامي، وتاريخ الحديث النبوي، كل هذا وهذا يبطل هذا التفسير، وذلك مما أشرنا إليه آنفاً أن الرسول أوذي أشد الأذى، بل جاء في الحديث أن الرسول عليه السلام قال: (لم يؤذ أحد مثلما أوذيت أنا) ويقول كرد عام: (نحن معاشر الأنبياء أشد ابتلاءً ثم الأمثل فالأمثل) .
إذاً: كيف يقول هذا القائل تبعاً لأولئك الكتاب: أن الله قال للرسول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] أي: من أذاهم، كيف يقولون هذا؟! هذا خطأ.
إذاً: ما المقصود بقوله: {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] ؟ أي: يعصمك منهم أن يتمكنوا من قتلك ومن القضاء عليك، فيحولون بذلك بينك وبين تبليغ الرسالة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧] كن مطمئناً، فلن يستطيع أحدٌ مطلقاً أن يصل إليك فيقتلك ويمنعك من أن تبلغ رسالة ربك.
هذا هو معنى الآية، فلما أساءوا الفهم لهذه الآية أساءوا فهم حديث السحر، أن هذا فيه إيذاء من ذلك اليهودي الخبيث لهذه النفس الطاهرة، فقالوا: إن هذا الرسول معصوم؛ والرسول معصوم بين أن يحول بينه وبين تبليغ الرسالة أحد، أما عن الأذى فليس معصوماً أبداً، وهذا -كما قلنا- خلاف الآية وخلاف الحديث النبوي.
إذاً: حديث السحر في جانب والآية ونحوها أيضاً من آيات أخرى في جانب آخر، ولا تعارض بينها وبين الحديث الصحيح، أما وصف السائل تبعاً -أيضاً- لبعض الكتاب المعاصرين لهذا الحديث بأنه حديث آحاد، فهذه فتنة بثتها المعتزلة منذ عشرة قرون وأكثر، وتمكنوا -مع الأسف- من دسها في أذهان بعض أهل السنة الذين يزعمون أنهم يحاربون المعتزلة في أفكارهم وعقائدهم، ولا يحسون ولا يشعرون أنهم معهم في كثير من عقائدهم، ومن ذلك فلسفة حديث الآحاد وحديث التواتر.
وهذه فلسفة دخيلة في الإسلام، ليس هناك إلا حديث ثابت أو غير ثابت، وبعد أن يثبت الحديث يجب الأخذ به سواءً كان في العقيدة، أو في الأحكام، أو في الأخلاق، أو في الأخبار، أو في أي شيء كان، ما دام أنه ثبت أن الرسول قاله وجب التسليم.
وهذا الحديث لأي صنف من هذه الأصناف؟ هل هو في العقيدة؟ لا.
هذا له علاقة بالواقع والتاريخ.
إذاً: مرض الرسول عليه السلام أم لا؟ نريد حديث تواتر، ولا يوجد حديث تواترٍ، فكل إنسان يمرض والرسول بشر ويمرض، والرسول سحر أم لم يسحر؟ الحديث أنه سحر، ولا نقول: إنه سحر لأنه لا يجوز أن ننسب للرسول ما لم يثبت.
وهاتان المعوذتان مكيتان، وليس عندهم دليل إطلاقاً في ذلك، بينما هناك حديث صحيح أنهما نزلتا بمناسبة سحر الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: ادعاء أن هذا حديث آحاد من أجل التقليل والتضعيف منه؛ هذا لا ينبغي أن يذكره المسلم× لأنها فلسفة اعتزالية.
وثانياً: هذا الحديث ليس معارضاً للآية، كما ذكرنا أن الآية تعني (مسحوراً) بمعنى (مجنوناً) أي: لا يعي ما يقول، أما الرسول فعلى خلاف ما جاء في كلام السائل في الأخير، من أنه ما استطاع أن يخرج إلى المسجد ولا أن يجلس مع المسلمين، وهذا ليس كذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام ظل كما كان من قبل، ونحن نعلم أيضاً من تاريخ الإسلام الصحيح والسيرة النبوية الصحيحة أن الرسول عليه السلام لما مَرِض مَرَض موته، وكَّل أبا بكر أن يصلي بالناس، وكَّل فقط في آخر حياته أبا بكر أن يصلي بالناس، وفي غير ذلك استمر هو دائماً وأبداً إلا إذا سافر من المدينة فكان غيره يصلي.
أما وهو حادث فما أناب أحداً أن يصلي عنه إلا في مرض موته.
إذاً: في هذه الحادثة كان يصلي هو، ولو تأخر يوماً واحداً لنقل ذلك، كيف وهذا المرض استمر في الرسول عليه السلام ستة أشهر؟ فلو كان كما قال الظالمون قديماً والكفار، وكما يقول الظالمون حديثاً والمسلمون لكنهم جاهلون، يظنون أن الحديث يعني ما تعني الآية، لو كان الأمر كذلك لكان التاريخ نقل إلينا ذلك، لكن التاريخ ما نقل شيئاً من ذلك.
فنقول لهم: إذاً: افهموا الحديث في حدود وقته، وفي حدود تاريخ حياة الرسول عليه السلام من أولها إلى آخرها، حيث أنه ما ثبت أن النبي تأخر عن القيام في واجباته خلافاً لقول السائل: وإذا كان قد سُحر فهذا يعني أنه قطع الذهاب إلى المسجد وتبليغ الرسالة.
نحن نعرف -كما عند العامة- أن فلاناً إذا تزوج ومرت عليه أول ليلة وثاني ليلة وشهر وأكثر ولم يستطع أن يؤدي واجبه يسمونه (مربوطاً) ، فهل هذا المربوط لا يذهب إلى عمله وينقطع عن شغله؟ لا.
هو مثلكم لكنه عاجز عن تلك المواهب لسبب ما، فهل يعني هذا أنه تغير عقله وتغير تفكيره؟ أبداً.
كذلك قوته أيضاً، أي: ليس عنده قوة، فهذا إما مرضاً وإما سحراً، فإذا كان مرضاً فالأطباء يكتشفونه، وإذا كان سحراً فلا يستطيع الأطباء أبداً أن يكتشفوه؛ لأن هذا مرض روحي والأطباء يعالجون الأمراض المادية، ومن هنا يجب على المسلمين أن يتعالجوا بالطب النبوي ومنه قراءة المعوذتين، وقراءة بعض الأوراد الخاصة المختصرة: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق صباحاً ومساءً، إلى آخره، فلن يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر) .
وهذه الحادثة تأكيد لخلاف ما تقوله المعتزلة وأذنابهم في العصر الحاضر: أن السحر لا تأثير له، كيف يقول هؤلاء هذا الكلام والرسول يأمرنا بأن نتعوذ وأن من فعل ذلك لم يؤثر فيه سم ولا سحر؟ فقرن السحر من حيث التأثير مع السم، فهل يقال: إن السم لا يؤثر؟ لا؛ لأن تأثيره مادي، فهو ملموس، فهؤلاء الماديون يؤمنون بالمادة، أما هذا السحر ا