للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم الالتزام بمذهب معين في الفتوى]

من هنا ننتهي إلى مسألة خطيرة جداً وهي: ما وقع فيه كثير من البلاد الإسلامية اليوم، أعني بالبلاد الإسلامية التي وقعت في هذه القضية المشكلة: البلاد السورية -مثلاً- والمصرية، حيث أنهم ألزموا القضاة والحكام بأن يقضوا ويفتوا بناءً على مذهبٍ معين، إما على المجلة سابقاً، وإما على القوانين التي وضعت حديثاً بشيء من التعديل لأحكام المجلة سابقاً، هذا بالنسبة للقضاة، وبالنسبة للمفتي فعليه أن يفتي ملتزماً المذهب الحنفي، هذا إلزام بما لا يلزم أولاً، بل هذا أمرٌ بنقيض ما أفاده هذا الحديث، فإن المفتي إذا استفتي فعليه أن يرجع إلى الكتاب والسنة، لا أن يرجع إلى مذهبه الذي قال فيه إمامه، ولا يحل له أن يفتي حتى يعرف دليله، فهذا المفتي المتقيد بالإفتاء بمذهبه لا يرجع إلى الأدلة الشرعية، فهو يفتي بما جاء في المذهب.

وأنا أضرب على هذا مثلاً: صدرت فتوى اطلعت عليها بنفسي من بعض المفتين السابقين في هذه البلاد: أنه يجوز للمسلم أن يحفظ لحم الخنزير في البرادات الكبيرة للنصارى؛ لأن أحد المسلمين الطيبين عنده براد ضخم يحفظ فيه الفواكه، واللحوم، ونحو ذلك، فجاءه رجل أرمني وعرض عليه أجراً باهظاً مقابل أن يحفظ له لحوم الخنزير في هذا البراد، فالمسلم شك قلبه في هذا العمل، وهل يجوز للإنسان المسلم أن يحفظ لحم الخنزير المحرم؟ فذهب وسأل المفتي، فقال له المفتي: تعال بعد أيام، فجاء فأعطاه الفتوى، والفتوى في الحقيقة مضحكة مبكية في آن واحد؛ لأنها أولاً: جاءت فتوى على غير ثبت، أي: على غير حجة.

وثانياً: جاءت فتوى على أسلوب السياسيين في الكلام المطاط، الذي من الممكن أن نأتي به هكذا، أو نأتي به هكذا، حيث أفتى المفتي بأنه جاء في الكتاب الفلاني من المذهب الحنفي الذي هو يفتي به، لو أن مسلماً استأجره ذميٌ على أن ينقل الخمر جاز له ذلك وطاب له الأجر، وقال فلان في المذهب: جاز لكن مع الكراهة، ثم نقل نقلاً آخر، قال: لو أن مسلماً بناءً استأجره نصراني على أن يبني له كنيسة، جاز وطاب له الأجر.

وبعدما انتهى من نقل مثل هذه النقول المتعارضة لم يقل للمستفتي: يجوز لك اتخاذ لحوم الخنزير أو لا يجوز حل لك الأجر أو ما حل لك الأجر، وإنما قال: ومما سبق تعرف جواب سؤالك.

فالجواب فيه خطيئتان: الخطيئة الأولى: ما قال له: قال الله وقال رسول الله أبداً، مع أن المسألة من أوضح المسائل بالنسبة لمن كان على علمٍ وفقهٍ في الكتاب والسنة.

والخطيئة الثانية: أنه حيره، وأتى له بقولين: قول أول طاب لك الأجر، وقول ثانٍ يكره؛ والكراهة في المذهب الحنفي إذا أطلقت فإنما هي للتحريم.

فلو رجع هذا المفتي كما أوجب عليه هذا الحديث، أي: أن يفتي المستفتي على ثبتٍ وبينة ورشد، لو رجع للكتاب والسنة لوجد مثلاً في القرآن الكريم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢] فهذا تعاون على عدوان، وعلى معصية الرحمن تبارك وتعالى، ولوجد في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) فلعن كل من يساعد على أكل الربا، وكذلك في الحديث الصحيح: (لعن الله في الخمر عشرة ... ) عشرة أجناس ابتداءً من الشارب وانتهاءً إلى حامل الخمر؛ ذلك لأنهم كلهم يتعاونون على شرب الخمر الذي هو المعصية في الأصل، لكن شرب الخمر لا يمكن أن يحصل بدون بيع الخمر، وبيع الخمر لا يمكن أن يحصل بدون شرائه، وشراء الخمر لا يمكن أن يحصل بدون شراء العنب، وشراء العنب لا يمكن أن يصبح خمراً إلا بعصره، وهذا العصير لا يمكن أن يصبح خمراً -لأنه يمكن أن يصير خلاً- إلا بتعاطيه بطريقة فنية حتى يصير خمراً، فإذا صار خمراً لا يمكن شربه من الدكاكين والحوانيت إلا بأن ينقل من العصارة -أي المخمرة- إلى بائع الخمر وهكذا؛ فلأن هؤلاء كلهم يساعد شارب الخمر على شرب الخمر لعنوا جميعاً، فكيف يخفى هذا على من كان على علم بالكتاب والسنة، فيفتي لذلك المستفتي بأنه يجوز ادخار لحم الخنزير.

فإذاً: المصيبة اليوم هي أن الفتوى مفروضة على القاضي بأن يفتي من مصدر ليس هو الكتاب والسنة، والقضاة يجب عليهم أن يفتوا من القوانين وليس هناك قوانين شرعية محضة، كما كان الأمر في زمن (المجلة) ، حيث استنبطت كلها أو جلها من المذهب الحنفي، فأصبح فيها اليوم قوانين وضعية لم تنزل من السماء، وإنما نبعت من الأرض، ففرضت هذه الأحكام على القضاة المسلمين ليقضوا بها بين المسلمين.

هذه مصيبة حلت بالبلاد السورية، والبلاد المصرية، وربما في بلاد أخرى لا نعرف حقيقة الأمر فيها، والآن هناك دعاة يدعون إلى تقنين الأحكام، أي: إلى الاقتداء بالدولة السورية، والدولة المصرية، وفرض آراء وأفكار معينة على القضاة الذين يحكمون هناك بالكتاب والسنة، فهذه مصيبة جديدة، ونرجو الله عز وجل ألا تتحقق في تلك البلاد، ولكن يجب على كل مسلم أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنه لا يجوز الإفتاء إلا من كتاب الله، وحديث رسول الله، كما لا يجوز القضاء إلا استنباطاً من كتاب الله، أو حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.