[أفعال العباد بين التخيير والتيسير]
أعمال الإنسان على قسمين: القسم الأول: قسم يصدر منه بدون قصد منه، فهنا يصح أن يقال: إن الإنسان مسير.
والقسم الثاني: قسم يصدر منه قصداً وعمداً وتوجهاً واختياراً، فهذا لا يصح أن يقال: إنه مسير، أي رغماً عنه، بل هو في ذلك مختار، والواقع الذي يلمسه كل إنسان عاقل يشهد بأن أعماله لا تتعدى هذين القسمين: إما مسير فيها لا قصد له فيها ولا اختيار، وإما مخيَّر، له فيها محض الاختيار.
ومثال الأول: الطول والقصر واللون والحياة.
إلخ، فهذا لا يملكه الإنسان، بل أقول: العمل الصالح والعمل الطالح، كأن تكتب جملة فيها خير، وجملة فيها شر، أو تنطق بكلمة خير أو شر، هذا كله يعود إلى القسم الثاني مما هو فيه مختار.
وهذا التقسيم هو رأي أكثر عقلاء الناس، ولا أخص المسلمين، بل رأي عقلاء الناس، إلا من شذوا في عقلية فهمهم، من أولئك الذين يقولون: إن الإنسان مجبور، وعبَّر عن هذا الرأي الخاطئ شاعرهم حين قال واصفاً علاقة الإنسان مع الله، بحيث أنه كبَّله وغلله، فقال:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
هكذا يصفون الإنسان من حيث أنه لا إرادة له ولا اختيار مع الله عز وجل -حاشا لله- فالله عز وجل يقول في كثير من الآيات التي يذكر فيها العمل، ويبني عليه دخول الجنة: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:٣٢] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:٧] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:٨] .
أقول: إن أعمال الإنسان تنقسم إلى قسمين، وهذا الذي يحكم به العقل فضلاً عن الشرع، ولكن ههنا دقيقة يجب أن يتنبه لها هؤلاء الناس؛ لا سيما الذين ليس عندهم علم بالعقيدة الإسلامية، فليس معنى كون الإنسان في بعض أعماله مختاراً، وفي البعض الآخر ليس مختاراً، أنه في القسم الأول الذي هو فيه مختار، أن ذلك ليس مقدراً عليه وليس نصيباً عليه، وليس وارثاً إرادة الله ومشيئته لا، كل ذلك مقدر عليه، ومكتوب عليه، وهو بمشيئة الله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:١٣٧] .
فكل شيء مسجل، وكل أمر مسطر: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٣٨] هذا الجمع بين الإيمان بالقدر الإلهي، والإيمان باختيار الإنسان، في القسم الذي له فيه الاختيار، هذا الجمع هو من الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
فأناس يضلون يميناً أو يساراً، من الذين يحكِّمون عقولهم فقط، كما قلنا: معلوم عند الناس أن الإنسان مختار، لكن لا بد من التقسيم السابق- ثم يقولون: إن الأمر جلي، فلا علاقة لإرادة الله ولا لمشيئته ولا لقضائه ولا لقدره في شيء من ذلك.
هؤلاء يقولون قولاً منكراً يخالف الكتاب والسنة، ويخالف إجماع الصحابة، الذين كان أحدهم إذا بلغه عن رجل يحكم عقله أنكر عليه، هكذا يقولون: الإنسان مختار، والأمر طرح جديد يستأنفه الآن، ولم يصبح في ذلك قضاء وقدر، هؤلاء هم المعتزلة قديماً وأشباههم حديثاً، الذين باعتمادهم على عقولهم ينكرون القدر.
يقابل هؤلاء أناسٌ آخرون، إيماناً منهم بالقدر نفوا الاختيار للإنسان، وحينذاك نعود إلى أصل الحديث، ولا فرق عندهم بين العمد وبين الخطأ، ما دام الإنسان في كل شيء يصدر منه فهو مرغم ومجبور.
إذاً: هذا تعطيل لعشرات إن لم نقل: لمئات النصوص من الكتاب والسنة، التي تفرق بين العمد وبين الخطأ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦] .
هل نقول: ربنا لا تؤاخذنا إن تعمدنا؟! فهناك نصوص تفرق بين التعمد -كما سمعتم- وبين الخطأ، وإذا كان الإنسان لا يملك وليس له إرادة، إذاً: هذا تفريط في الكلام، وحاشا! فهذا كلام الله عز وجل، بل وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، حاشا لكليهما أن يكون فيه شيء من اللغو أو الخطأ، إذاً: اللغو ممن؟ من هؤلاء الذين يقولون قولاً يسوي بين فعل الإنسان العمد وفعله الخطأ.
فهؤلاء هم الجبرية، وأولئك هم المعتزلة، أولئك دعواهم أن الإنسان مختار، لكنهم جحدوا نصوص الكتاب والسنة التي فيها التصديق بأن كل شيء بقدر، وهؤلاء الجبريون إيماناً بما سطر، جحدوا ما هو واقع من اختيار الإنسان، وما هو أصل التكليف للإنسان، هو هذا الاختيار الذي يعبر عنه بعضهم تعبيراً لا للتحقير، يقولون عنه بالجبر الاختياري، هو مختار، إما اختياراً وإما اضطراراً، إما عمداً وإما خطأً، لذلك هذا التفريق هو من تمام الإيمان والإسلام، أما التسوية بين العمد والخطأ فهو إنكار لهذا الاختيار الذي به أمر الله عز وجل بتكليف عباده.
والاعتقاد بأن الإنسان يفعل دون أن تسبق بذلك مشيئة الله وإرادته، هذا اعتزال، وهو انفراد -كما قلنا- عن الإيمان بالقدر، الذي هو ركن من أركان الإيمان.