للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفرق المنحرفة في إثبات المكان لله تعالى]

هناك طائفتان اثنتان: طائفة تثبت المكان لله ولعلكم تسمعون هذا الإثبات من ألسنة من ينتمون إلى أهل السنة والجماعة من بين أظهرنا، ولا نذهب بكم بعيداً عنا، فأحدنا في بعض المجالس طالما سمع بأذنيه قائلاً من المسلمين وليسوا من الأحباش يقول: الله في كل مكان، الله موجود في كل الوجود، هذه عقيدة ليست من عقائد المسلمين إطلاقاً، وإنما هي عقيدة طائفتين انحرفتا عن العقيدة الصحيحة التي ذكرنا آنفاً أنها من المقطوع بها في القرآن وفي السنة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى.

الطائفة الأولى: هم المعتزلة قديماً وحديثاً، المعتزلة القدامى يصرحون بأن الله في كل مكان، ومن هؤلاء الطوائف التي لا تعرف اليوم باسم المعتزلة، لكنهم يعرفون باسم آخر، وهم طائفة من الخوارج، الذين نعرف جميعاً شيئاً من تاريخهم ومن إسرافهم في كثير من العقائد الصحيحة، تلك الطائفة الموجودة اليوم هم المعروفون بـ الإباضية، وهم يتبنون عقيدة المعتزلة أن الله عز وجل في كل مكان، ولا كلام لنا الآن مع هؤلاء؛ لأنكم قد عرفتم بأنهم مبطلون حينما يحشرون الله عز وجل في كل مكان، لكن يجب أن تتنبهوا وأن تتذكروا أن هؤلاء الأحباش وأمثالهم حينما يلتقون مع بعض المسلمين أو المسلمات، ويشككونهم في عقيدتهم الصحيحة، وهي أن الله عز وجل على العرش استوى، كيف؟ لا كيف -كما تعلمون- وهذا له بحث آخر، فبدل أن يعالجوا ما نسمع في مجالس أهل السنة والجماعة -كما يقولون اليوم أن الله موجود في كل مكان- بدل أن يعالجوا هذا الخطأ يعالجون عقيدة صحيحة باسم إنكار هذا الخطأ.

المعتزلة قديماً ومن على شاكلتهم من الإباضية حديثاً، يصرحون بأن الله في كل مكان، وهذا ضلال ما بعده ضلال، ولعلنا نعرج لتفصيل شيء من هذا الضلال.

أما الطائفة الأخرى فهم الذين يقولون: إن الله ليس في مكان مطلقاً، سواء كان المكان مكاناً وجودياً -أي: الذي كان عدماً ثم خلقه الله- أو كان مكاناً ذهنياً.

كلنا يعلم -كما ذكرت لكم آنفاً- بأن الله عز وجل كان ولا زمان ولا مكان، هل كان في مكان؟ إن كان المقصود بالمكان المكان المخلوق فحاشاه! فقد كان ولا شيء معه مطلقاً، لكنه كان، فكان في مكان، أما إن كان في هذا العدم الذي كونه فيما بعد، فجعل قسماً منه خلقاً بقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٧] فالله كان وهو من هذه الحيثية لا يزال كما كان، أي: ليس في مكان مخلوق، هذا واضح جداً.

فالطائفة الأخرى ينكرون أن يكون الله عز وجل كما كان في الأزل ليس في مكان، ولذلك فهم لا يثبتون له صفة العلو على المخلوقات كلها.

هؤلاء لهم مقولة من أبطل ما يقوله كافر -لا أقول: مسلم- وهم الفرقة الثانية الذين يخالفون المعتزلة في ضلالهم، وقد عرفتم أن المعتزلة يقولون: إن الله في كل مكان، وهذا ضلال واضح ولا يحتاج إلى بيان إن شاء الله، على الأقل الآن أولئك الذين يقولون: الله ليس في مكان -كما تقول المعتزلة وكما تقول الأحباش- هؤلاء لا يقولون: إن الله عز وجل له صفة العلو على المخلوقات كلها، لا يعلم كيفية ذلك إلا الله عز وجل، ماذا يقولون؟ يقولون وهذه عقيدة الأحباش، فأرجو ممن تمكنوا من الوسوسة إليهم أن يعرفوا حصيلة وسوستهم، ألا وهي جحد الخالق، والمصير إلى الإلحاد المطلق، كما هو مذهب الشيوعيين والدهريين والزنادقة والملاحدة، الذين يقولون: لا شيء إلا المادة، هؤلاء يصفون ربهم ويقولون: الله تبارك وتعالى لا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه.

نحن اتفقنا معهم أن المكان مخلوق وهو العالم، فالله ليس داخل العالم، ولكن ما بالهم يقولون أيضاً: ليس خارج العالم؟ هذا هو الإلحاد، وهذا هو الجحد المطلق.

زاد بعضهم إغراقاً في التعطيل وفي النفي فقالوا -بعد أن قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه- قالوا: لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه هذا هو الجحد، هذا هو الذي يقوله الدهريون جميعاً، ويعجبني -بهذه المناسبة- مناظرة وقعت بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وبين بعض علماء الكلام من أمثال الأحباش هؤلاء، الذين شكوا شيخ الإسلام ابن تيمية إلى حاكم البلد يومئذ في دمشق بأنه يقول كذا وكذا، ويجسم، ويتهمونه بما ليس فيه، وطلبوا عقد مجلس مناظرة معه؛ فاستجاب الأمير لذلك، ودعا شيخ الإسلام ابن تيمية والمخالفين له، فجلسوا أمام الأمير، فسمع الأمير دعوى هؤلاء المشايخ، وسمع من شيخ الإسلام الآيات والأحاديث التي تثبت لله عز وجل صفة العلو على خلقه، مع التنزيه التام، كما صرح به القرآن: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] فلما سمع كلام الشيخ من جهة وكلام أولئك العلماء من جهة أخرى؛ قال -وهذا يدل على عقل وذكاء ممتاز- قال: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم.

هذه كلمة حق تقال لأناس يقولون عن ربهم باختصار: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، صدق ذلك الأمير حينما قال عن هؤلاء الأقوام: هؤلاء قوم أضاعوا ربهم؛ لأننا إذا قلنا لأفصح رجل في اللغة العربية: صف لنا المعدوم الذي لا وجود له لما استطاع أن يصف بأكثر مما يصف هؤلاء معبودهم وربهم، فالمعدوم: الذي ليس داخل العالم ولا خارجه، فهل الله كذلك؟ حاشا لله! بل كان الله ولا شيء معه.

لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يصف المجسمة الذين يشبهون الله ببعض مخلوقاته، وهؤلاء هم الذين يتستر من ورائهم الأحباش، فينكرون أن يكون لله -مثلاً- صفة اليد التي ذكرها في القرآن، والصفات الأخرى التي قد نتعرض لذكر شيء منها قريباً إن شاء الله.

وصف ابن تيمية هؤلاء المجسمة بوصف دقيق جداً، كما أنه وصف المعطلة، وقرن الطائفتين وجمعهم في وصف يجمعهم الضلال قال: المجسم يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً.

هذا هو الحق، المجسم يعبد صنماً، الله ليس جسماً، حاشا لله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] أما المعطل فيعبد عدماً، كيف؟ لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، هذه هي عقيدة المعتزلة وعلماء الكلام ومنهم الأشاعرة اليوم، ومنهم بعض الماتريدية قديماً، وقد يكونون اليوم عامةً ماتريدية حيث لا يقولون بقولة الحق التي قالها بعض الماتريدية القدامى، الذين تمسكوا بهدي السلف الصالح، فقال قائلهم بحق:

ورب العرش فوق العرش لكن بلا وصف التمكن واتصال

أي: إن الله عز وجل -كما قال- هو الغني عن العالمين، فالله عز وجل استوى على العرش، أي: استوى على المخلوقات كلها، ليس لأنه بحاجة إليها، وإنما ليكون مهيمناً وقاهراً لكل مخلوقاته.