[الحث على الإنفاق وعدم الادخار إلا للضرورة]
هنا استثناء، يقول: (إلا شيء أرصده لديني) يعني هو لم يدخر من ماله شيئاً إطلاقاً، إلا مالاً عليه دين يريد أن يقضيه وقد جاءه مال كثير، فيقتطع منه هذا الدين ويدخره عنده حتى إذا جاء صاحبه أعطاه إياه، حتى لا يرده؛ لأنه قد جاءه المال، وادخار هذا الدين هو الذي فقط يريد أن يحبسه عليه السلام، أما ما سوى ذلك فهو يفرقه وينفقه كما قال: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يميني وعن شمالي وعن خلفي) هكذا يحض الرسول عليه السلام أمته أنهم إذا جاءهم مال ألا يدخروه، وأن ينفقوه في سُبل الخير، ولكن هذا الإنفاق وترك هذا الادخار الذي أشار إليه الرسول عليه السلام، أنه لا يدخر المال مهما كان كثيراً إلا ما كان عليه دين، ما حكمه في الإسلام؟ هذا الإنفاق أهو واجب؟ وهذا الادخار أهو حرام؟ هنا يجب أن نفهم الموضوع الذي يثار في العصر الحاضر؛ استغلالاً للإسلام في خدمة بعض المذاهب المخالفة للإسلام، ألا وهو المذهب الاشتراكي أو الشيوعي، وكثير من الكتاب المغرضين- وبعض الكتاب المخلصين، استغلوا مثل هذا الحديث، فجعلوا الإسلام يحرم على الأغنياء أن يدَّخروا مالهم، وزعموا أن الإسلام يوجب ويفترض عليهم أن ينفقوا كل مالهم، كما هو حديث أبي ذر هذا.
من أجل ذلك نحن نقول: أي حكم في الإسلام لا يجوز أن يؤخذ من نص واحد، إلا من مجموعة نصوص، هذا الحديث بلا شك فيه حث بالغ جداً على الإنفاق، والتحذير من الادخار، ولكن الحكم الدقيق والحكم الفقهي لا يؤخذ من هذا الحديث وحده، فكل المسلمين أجمعوا أن الله عز وجل فرض على أنواع معينة من الأموال زكاة أيضاً، محدودة في كل سنة، في كل موسم، ونسبة معلومة، فحينما فرض هذه الزكاة مثلاً (٢.
٥%) على النقد؛ وعشرة أو أقل من ذلك في المحاصيل الزراعية، معنى ذلك أن ما سوى ذلك جائز للمسلم أن يتمتع به، وجائز أن يدخره، ولذلك فكل مال أُخرجت زكاته فليس بكنز يعذب عليه صاحبه يوم القيامة، وكما مرت معنا أحاديث في كتاب الترغيب والترهيب في تحذير الأغنياء الذي يكنزون الذهب والفضة، وأنها تكوى بها جباههم يوم القيامة، فما معنى يكنزونها؟ أي: لا يخرجون ما فرض الله عليهم فيها من حق.
إذاً: ليس من الواجب أن يخرج المسلم ماله كله وألا يبيت وعنده أي مال، لكن هذا من فضائل الأعمال، ومن مكارم الأخلاق؛ أن المسلم إذا أغناه الله من فضله أن ينفقه، ومع ذلك فهنا شيء آخر يجب أن يذكر، لا يعني أن يدع عياله وأهله وأطفاله فقراء، جاءه هذا المال فأنفقه بكليته، ولم يعبث به وإنما على المسلمين، ولكن أحق المسلمين بشيء من هذا المال هم الأقربون، ولذلك فلا يتناقض هذا مع حديث مضى معنا في كتاب الزكاة، أن الرسول عليه الصلاة السلام كان يدخر لأهله قوت سنة، فهذا جمع بين الحقوق، فهو من ناحية لا ينسى حقوق أهله، ومن ناحية لا يدخر المال الذي زاد عنده على حقوق أهله وينفقه على المسلمين.
خلاصة القول: المال الواجب إخراجه ليس هو كل مال، وإنما هي نسبة معروفة في كتب الفقه وبإجماع المسلمين، أما الخروج عن كل ذلك أو نصف المال فهذه أمور من فضائل ومكارم الأخلاق، والناس يختلفون في ذلك أشد الاختلاف، وقد كنا ذكرنا في بعض الدروس السابقة أن البخل بخلان: بخل يعذب عليه الإنسان وهو إذا بخل بما فرض الله عليه، والبخل الآخر يذم عليه، ولكن لا يعاقب عليه، وهو الذي لا ينفق يميناً ولا يساراً ولا أمامه ولا خلفه.
فمن هنا نفرق بين ما هو واجب وبين ما هو مستحب، والناس في هذا متفاوتون، ولعله مر في كتابنا هذا أو في درسنا حديث مسابقة عمر لـ أبي بكر، قال عمر بعد تجربة أخيرة بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أن أبا بكر سمع -بمناسبة ما- حضاً على الإنفاق في سبيل الله، فجاء بكل ماله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله) فجاء عمر وقدم نصف ماله، فلما علم ما فعل صاحبه، قال: [ما سابقته إلا سبقني] ولم يسابقه، ف أبو بكر خرج عن كل ماله، وعمر خرج عن نصف ماله، والناس درجات، ومن النادر جداً أن مسلماً عاقلاً يخرج عن جميع ماله، ولذلك أنا أكاد أعتبر خروج أبي بكر عن كل ماله هذه مزية كمزية الرسول عليه السلام ههنا، حيث يقول: إنه لا يسره أن تمضي عليه ثلاث ليالٍ وعنده مثل جبل أحد ذهباً أن يبقى عنده.
وذلك لأن العدل في الحقوق صعب جداً، إنسان يخرج عن ماله ويؤدي كل الحقوق بالنسبة لأولاده وإلى أقاربه، فالموازين الدقيقة لا يحسنها إلا أفراد قليلون جداً، ومنهم أبو بكر الصديق، أو هو أولهم وآخرهم.
لذلك ينقم على الصوفية الذين جعلوا الخروج عن المال مبدأ لهم، بدون هذا التفصيل الذي يجب أن يراعى فيه الخارج عن ماله ألا ينسى حقوق الآخرين، ولذلك هم يروون القصة المزعومة التي وقعت بين الإمام الشافعي وبين شيبان الراعي، وأهل العلم يقولون: هذه قصة مختلقة؛ لأن الإمام الشافعي ما أدرك شيبان الراعي، فبينهما مسافة، وإنما وضعتها بعض الطوائف الصوفية للدعوة إلى مذهبهم.
زعموا بأن شيبان الراعي كان وصفه بأنه رجل أميّ ومع ذلك هو فقيه، أي: عنده العلم اللدني المزعوم، فسأله عن رجل يسهو في الصلاة ماذا عليه؟ -السائل الإمام الشافعي والمسئول شيبان الراعي - فقال شيبان للشافعي: عندنا أم عندكم؟ قال: كيف عندنا أم عندكم هل هناك فرق؟ قال: نعم.
قال الشافعي: لا أجيزه.
ماذا عندنا وماذا عندكم، قال: أما عندكم فالذي يسهو في الصلاة يسجد سجود السهو وانتهى الأمر، قال: وعندكم.
قال: هذا الذي يسهو في الصلاة ينبغي أن تقطع رقبته، فسأله سؤال آخر: ما الذي يجب على المسلم من الزكاة؟ فقال له: عندنا أم عندكم؟ قال له: وأيضاً فيها عندنا وعندكم، قال: نعم.
قال: عندنا وعندكم فصِّل، قال: عندكم يخرج (٢.
٥%) وإذا به قد أدى الواجب، قال: وعندكم؟ قال: عندنا يخرج عن جميع ماله، هذه هي القاعدة، وهذا خطأ؛ لأن الخروج عن جميع المال قد يؤدي إلى أمور مخالفة للإسلام.
وفعلاً إذا قرأت حكايات الصوفية في هذا المجال ستجد العجب العجاب، وحتى بعض المحدثين ابتلوا بالتصوف، فكان قد ضيَّع قسماً من حياته في علم الحديث، فلما تصوف أخذ كتب الحديث وحرّقها، وآخر أخذها ودفنها في الأرض، وآخر عنده مال رماه في البحر، هذا كله خروجاً عن المال، كأن الخروج عن المال صار هدفاً، بينما الخروج عن المال هدفه تطهير النفس وتزكيتها وليس خراباً لبيوت الآخرين، بل تساعد نفسك وتنفع إخوانك المسلمين.
لعلي أطلت الآن، وهذا الحديث في الواقع عليه تعليقات كثيرة، فلعلنا نؤجل ذلك إلى الدرس الآتي؛ لنتوجه إلى الإجابة عن بقية الأسئلة، علماً أننا لا نستطيع الإجابة عنها كلها، ولذلك اعفونا عن أسئلتكم الليلة.