للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم ضرب الدفوف في الأعراس]

السؤال

قرأت في كتاب ما يلي: وقد جرى الصحابة على ما رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يجلسون للسماع والطرب في أحفال الزواج ولا حرج، وأيد كلامه بالحديث التالي: قال عامر بن سعد: [دخلت على قرضة بن سعد وأبي مسعود الأنصاري في عرسه، فإذا جوارٍ يغنين، فقلت: يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم! يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن شئت فاذهب؛ فإنه قد رخص لنا في اللهو عند العرس] وقال: -يعني: صاحب الكتاب- بأن الحديث رواه الحاكم وصححه.

وتابع يقول: ويباح في أحفال الزواج قياساً على الدف كل ما كان من قبيله، كالعود والقانون والكمنجة والمزمار.

انتهى قول الكاتب، أرجو التعليق على ما تقدم مع التوضيح والشرح.

الجواب

أقول قبل كل شيء: هذا الحديث فعلاً رواه الحاكم في المستدرك، ولا أستطيع الجزم الآن بأنه أصاب في تصحيحه أم لا، وإن كان يغلب على حافظتي وذاكرتي أنه صحيح في واقع الأمر، وهذا إن شاء الله نتحقق منه فيما يأتي.

نقول: هذا الحديث يشبه من حيث دلالته حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام بغناء بعاث وتضربان عليه بدف، حين دخل أبو بكر الصديق فأنكر ذلك، فقال: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: دعهن يا أبا بكر؛ فإن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) .

هذا الحديث كهذا من حيث دلالتهما على جواز الضرب بالدف في يوم العيد، كما في حديث السيدة عائشة، وفي الزفاف كما في هذا الحديث على افتراض أنه صحيح كما نظن، فلا يجوز أن نلحق بهذه الآلة الآلات الأخرى التي ذكرها الكاتب أو السائل عن الكاتب -المؤلف- والسبب في هذا أن هناك قاعدة فقهية تقول: (ما كان على غير القياس فعليه غيره لا يقاس) عندنا أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف يتقوى بعضه ببعض، تدل هذه الأحاديث كلها على تحريم كل أنواع آلات الطرب.

إذاً: الأصل التحريم، فإذا جاء نص خاص يبيح شيئاً من تلك الآلات المحرمة فلا يقاس عليه؛ لأن القياس عليه يخالف النص العام، وإنما يوقف عند هذا النص الخاص، ماذا أباح هذا النص؟ أباح الضرب على الدف في يوم العيد -جائز- لحديث عائشة، وحديث أبي بكر الصديق أيضاً يؤكد هذا، لكن من أين أتى بالكمنجة والقانون وغيرها من الآلات التي سماها وأخرى لم يسمها أيضاً، من أين نلحق هذه الآلات الموسيقية بهذا النوع وهي داخلة في النص العام في تحريم المعازف، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ليكونن في أمتي أقوامٌ يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف) والمعازف: كل آلات الطرب.

إذاً: هذه الأنواع التي سماها داخلة في هذا النص العام، ما الذي استثني من هذا النص العام؟ الدف في العيد وقفنا عنده فقلنا: هذا مستثنى من النص العام.

أما إجراء القياس في استباحة ما جاء النص العام بتحريمه، هذا في اعتقادي من مفاسد العصر الحاضر، حيث يريد بعض الكتاب الإسلاميين بحسن نية أو بغيرها -الله حسيبهم- يريدون أن يهونوا على الناس ويفرجوا همومهم وكروبهم، لا سيما وقد هلكوا في ماديتهم، ويظنون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ولا يحسون ولا يشعرون أبداً أنهم يخالفون مقاصد الشريعة حينما أهملوا أصلاً من أصولها، ألا وهو تحريم كل آلات الطرب؛ لأنها تلهي الناس عن الذكر وعن القيام إلى الصلاة، والواقع يشهد أن كل من يتعاطى هذه المعازف وآلات الطرب قلما تجده مصلياً مع جماعة المسلمين أين يحضر الجماعة وهو في لهوٍ وفي سماعٍ للطرب؟ بل لعلهم لا يصلون ولو في عقر دورهم؛ لأنهم في الدور -أيضاً- ساهون لاهون وراء هذه الآلات، لذلك هذا القياس الذي لجأ إليه نقول فيه: أولاً: مخالف للقاعدة الأصولية التي ذكرناها آنفاً: (ما كان على خلاف القياس فعليه غيره لا يقاس) ، فإن إباحة الدف في الأعراس وفي الأعياد الشرعية على خلاف القياس؛ لأنه خلاف النص، فعليه لا يقاس غيره، لا سيما وهذا القياس يخالف النص العام الصحيح الصريح.

ثانياً: من العجيب جداً أننا نعيش في عصر فيه المتناقضات الغريبة، أناس -وهم جماهير المسلمين- لا يزالون غارقين في حياتهم العلمية المقلدة، يمشون على غير بصيرة في دينهم، ويدندنون ويجادلون أنه لابد من التمسك والجمود على المذهب، على التقليد الأعمى، وبعض كتابهم ودكاترتهم يفخر أنه مقلد، ولا يحس بأن معنى كلامه أن يفخر بأنه جاهل؛ لأن المقلد يساوي عند أهل العلم الجاهل، قالوا في كتاب القضاء: ولا يجوز نصب المقلد قاضياً، قالوا في الشرح: لأنه جاهل، مع ذلك وجد اليوم كُتّاب ودكاترة يقولون: أنا أفخر أني مقلد.

نعيش اليوم في مثل هذا التناقض.

وفي الطرف المقابل أناس يجتهدون ليخالفوا الشريعة بنصوصها، فهؤلاء يخالفون نصوص الشريعة بحجة التقليد، وهؤلاء يخالفون نصوص الشريعة بحجة الاجتهاد، ونحن نريد الوسط، والوسط: وهو اتباع الكتاب والسنة، بدون جمود وركون إلى التقليد وما وجدنا عليه الآباء والأجداد، ودون هذا الانطلاق بدون قيد ولا شرط، لإباحة ما حرم الله، فهذا الكلام من هذا النوع مع الأسف الشديد، وهناك فتاوى -كما سمعتم- لإباحة التعامل بالربا، تقول الفتوى: القليل من الربا لا بأس به، فتاوى صدرت في هذا، مع أن القرآن حرم الربا مطلقاً فقال الله: {لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:٢٧٩] فقط: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٧٩] والحديث أيد ذلك أيضاً.

لذلك فهنا عبرة لمن يعتبر: أنه لا يجوز الجمود على المذهب؛ لأن في ذلك تعطيل العقل والفكر، وتعويد المسلمين على عدم معرفة المسائل من أين جاءت، وفي هذا تهيئة الشباب المسلم لكيلا يتقبل مثل هذه الأقوال؛ لأنه سيعلم حينذاك أن هذه الأقوال مخالفة لنصوص الشريعة العامة.

هذه ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، وبهذا القدر الكفاية، والحمد لله رب العالمين.