للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والخفية: ما لا يفهم منها المقصود إلا بعد شيء من التأمل والتفكير لخفاء اللزوم بين المعنى المكني به والمكني عنه, كما تراه في قولهم: "فلان عريض القفا، أو كبير الرأس" كناية عن أنه بليد أبله، فإن عرض القفا بإفراط، أو كبر الرأس كذلك مما يستدل به -في العادة- على البلادة والبلاهة, كما يقولون، وفي العكس دليل الذكاء والنباهة, ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد:

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد١

فالخشاش صغير الرأس، وقد جعله دليلا على توقد الذهن، إلا أن فهم ذلك منه، أو من عكسه، يتوقف على إعمال فكر وروية؛ لأن اللزوم بين المعنيين، فيه نوع خفاء لا يدركه كل أحد.

والبعيدة: ما ينتقل الذهن فيها من المعنى الأصلي إلى المقصود بواسطة, كما تراه في قولهم: "فلان كثير الرماد" كناية عن أنه سمح جواد: فالمطلوب بهذه الكناية صفة هي "الجود" وبين كثرة الرماد، وصفة الجود وسائط عدة، لا بد من مراعاتها للوصول إلى هذه الصفة، فينتقل الذهن أولا من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، إلى كثرة الطبخ، ثم إلى كثرة الأكلة، ومنها إلى كثرة الأضياف، ومنها إلى صفة الجود, ومثله قول الشاعر:

وما يك في من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل٢

فقد كنى عن جوده، وكثرة قراه للأضياف، بجبن الكلب، وهزال الفصيل, إذ ينتقل للذهن من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار صاحبه إلى استمرار ما يوجب نباحه, وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ثم ينتقل من


١ "الرجل الضرب" الخفيف اللحم.
٢ "الفصيل" ولد الناقة.

<<  <  ج: ص:  >  >>