للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم دل ثانيًا بجمود العين على سرورها بقرب أحبته، واجتماع شمله بهم، فأخطأه التوفيق في هذه الكناية، ولم يكن النجاح حليفه فيها؛ ذلك أن جمود العين جفافها من الدمع عند الدافع إليه, وهو الحزن على فراق الأحبة، فالجمود حينئذ كناية عن بخلها بالدموع وقت الحاجة إليه، لا عما أراده من السرور, يؤيد ذلك قول أبي عطاء يرثي ابن هبيرة:

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود

أي: لبخيلة بالدمع, ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:

أعيني جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندى؟!

أي: أفيضا بالدموع, ولا تبخلا به. كما يرشد إلى ذلك أيضًا قولهم: سنة جماد أي: بخيلة بالقطر, وناقة جماد أي: لا تجود بالدر؛ ولهذا لا يصح عندهم أن يقال في مقام الدعاء للمخاطب بالسرور: لا زالت عينك جامدة، على معنى: لا أبكى الله عينك؛ لأنه دعاء عليه بالحزن لا بالسرور.

إذا علمت هذا, علمت أن المعنى الذي أراده الشاعر وهو السرور لا يفهم من الجمود إلا يدل عليه اللفظ لا لغة ولا عرفًا, اللهم إلا مع ارتكاب شيء من التعسف١, ومن هنا كان التعقيد في المعنى.

تنبيهان:

الأول: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلة بفصاحة الكلام، وهو أن يكثر٢ فيه التكرار، أو تتوالى فيه الإضافات.

فمثال التكرار قول أبي الطيب يصف فرسًا له بالنجابة، وحسن الجري:

وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد

"سبوح" فعول بمعنى فاعل من السبح وهو العوم في الماء، شبه به عدو الفرس،


١ هو أن يستعمل الجمود الذي هو خلو العين من الدمع حالة الحزن في خلو العين من الدمع مطلبًا إلى هنا صح أن يكنى به عن السرور؛ لأن المسرور تخلو عينه من الدمع عادة، غير أن استعمال الجمود في الخلو من الدمع مطلبًا لينتقل منه إلى السرور مخالف لاستعمالاتهم؛ لهذا كان الكلام بعيد المعنى.
٢ المراد بالكثرة ما فوق الواحد, وهو أن يذكر اللفظ مرة بعد مرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>