للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فخلو الذهن ظاهر حال المخاطب، وهو يقتضي أن يلقى إليه الخبر خلوا من التأكيد, لكن المتكلم صرف النظر عن هذا الظاهر، واعتبر في المخاطب أمرًا آخر هو "التردد"، وخاطبه على هذا الاعتبار، وذلك خروج بالكلام عن مقتضى الظاهر.

غير أن تنزيل خالي الذهن منزلة المتردد مشروط بأن يقدم له كلام يلوح بالخبر ويشير إليه، كما في المثال المذكور. فإن قوله: "لا تحدثني في شأن هذا الولد العاق" يشعر المخاطب بجنس الحكم، وهو أن المتشفع فيه قد استحق العقاب، وصار المخاطب بهذا الكلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب أهو ضرب، أم طرد، أم حرمان، أم غير ذلك من أنواع العقاب؟ وكأنه يطلب معرفته, ومنه قوله تعالى مخاطبًا نوحًا عليه السلام: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} , فقوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} مشعر بأن سيحل بقومه العقاب، فصار نوح عليه السلام في مقام المتردد في نوع هذا العقاب، لهذا خاطبه تعالى خطاب المتردد.

٢- تنزيل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار، وحينئذ يؤكد له الكلام كما يؤكد للمنكر حقيقة كما إذا كان المخاطب مسلمًا تاركًا للصلاة، معاقرًا للخمر، فقوله له مؤكدًا: أن الصلاة لواجبة، أو أن الخمر لحرام, فالمخاطب بحكم إسلامه يعلم قطعًا بوجوب الصلاة، كما يعلم بحرمة الخمر، ولا ينكر ذلك، وكان مقتضى هذا ألا يؤكد له القول, لكن تركه للصلاة، أو معاقرته للخمر جعله في منزلة المنكر لذلك، إذ لو كان يؤمن بوجوب الصلاة، أو بحرمة الخمر ما ترك الصلاة أو ما عاقر الخمر، لهذا خوطب خطاب المنكر خروجًا بالكلام عن مقتضى ظاهر حاله, ومنه قول الشاعر:

جاء شقيق عارضًا رمحه ... أن بنى عمك١ فيهم رماح

فشقيق هذا لا ينكر أن في بني عمه رماحًا، بل إنه ليعلم ذلك بحكم الجوار أو بحكم الخصومة القائمة بين الفريقين, لكن مجيؤه على هذه الصورة واضعًا رمحه عرضًا، من غير تهيؤ واستعداد، شأن المدل بنفسه، المعجب بقوته جعله في منزلة المنكر أن في بني عمه سلاحًا يذودون به بغي المعتدين، إذ لو كان معترفًا بذلك لجاء على هيئة المستعد للقائهم.


١ إنما سماهم بني عمك باعتبار أنهم جميعًا من فضيلة العرب, وإن تعددت قبائلهم ولا يبعد أن يكون بين القبيلتين وشائج قربى.

<<  <  ج: ص:  >  >>