للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتستعطف قلبه -ومثال الثاني- وهو ما نزل فيه الأمر للمجهول منزلة ما من شأنه ألا يجهل قوله تعالى: حكاية عن اليهود: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} , ادعوا: أن إصلاحهم المجهول للمخاطبين، والمنكر لديهم أمر جلي ظاهر، من شأنه ألا يجهله المخاطب، ولا ينكره تنزيلًا للأمر المجهول لهم، المنكر عندهم منزلة المعلوم المعترف به، فعبروا فيه "بإنما" على ما هو الأصل فيها, ومثله قول الشاعر:

إنما مصعب شهاب من الله ... تجلت عن وجهه الظلماء

ادعى الشاعر أن ثبوت هذه الصفة لممدوحه أمر جلي لا يخفى على أحد, كما هو دأب الشعراء إذا مدحوا، فإنهم يدعون الشهرة فيما يصفون به ممدوحيهم.

وإنما خص "النفي والاستثناء" بما من شأنه أن يجهل وينكر دون "إنما" لأن القصر من أسباب التأكيد ولما كان النفي صريحًا في "الاستثناء" كان التأكيد أقوى، فكان لموضع الإنكار أنسب. ا. هـ.

الخامس: أن "إنما" يعقل منها الحكمان: الإثبات والنفي دفعة واحدة، ويستفادان منها نصًّا من غير توقف على شيء, فإذا قلت مثلا: "إنما خالد كاتب" فقد أثبت له صفة الكتابة، ونفى عنه صفة الشعر مثلا في القصر الإضافي, وهذان الحكمان استفيدا من العبارة المذكورة في آن واحد، ودلت عليهما نصًّا، بلا توقف على شيء آخر وراء ذلك.

بخلاف "العطف" نحو: "خالد كاتب لا شاعر" و"ما خالد كاتبًا بل شاعرًا", فإن الذي يعقل أولا في "المثال الأول" ثبوت الكتابة لخالد, ثم نفي الشاعرية عنه, والذي يعقل في المثال الثاني "نفي الكتابة عن خالد", ثم ثبوت الشاعرية له, ولا شك أن تعقل الحكمين معًا أرجح، إذ لا يذهب فيه الوهم إلى عدم الحصر من أول الأمر "كما في العطف".

وبخلاف: "التقديم" نحو: "العلوم لزمت" فإنه وإن أفاد الحكمين معًا لكن ليس ذلك نصًّا، بل احتمالا, فإن الاسم المقدم يحتمل أن يكون معمولا للعامل المؤخر، فيكون تقديم المعمول مفيدًا للحكمين معًا, ويحتمل أن يكون معمولًا لعامل آخر قدر تقديمه على المعمول، فلا يفيد الحكمين.

وبخلاف "الاستثناء" فإنه -وإن أفاد الحكمين معًا نصًّا- لكن إفادته ذلك موقوفة على المستثنى منه، لأن الاستثناء موضوع للإخراج فلا بد من ملاحظة المخرج منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>