للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بخلاف الجملة الأولى، فإن في وفائها بهذا المراد قصورًا لدلالتها عليه إجمالا, وإنما كانت الجملة الثانية بمثابة بدل البعض من الأولى؛ لأن ما ذكر في الجملة الثانية من النعم الأربع بعض ما يعلمون، فهي على وزان "وجهه" من قولك: "أعجبني محمد وجهه".

ومثال بدل الاشتمال قوله تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} , فصلت الثانية عن الأولى إذ أبدلت منها بدل اشتمال؛ لأنها أبين وأوفى من الأولى في تأدية المعنى المقصود, وهو حمل المخاطبين على اتباع الرسل، إذ مفادها: أنهم لا يخسرون معهم شيئًا عن دنياهم بل يربحون صحة دينهم، فينتظم لهم خيري الدنيا والآخرة, وإنما كانت الثانية بدل اشتمال؛ لأن اتباع الرسل يتضمن اتباعًا موسومًا بالهداية والسعادة, وهو مضمون الجملة الثانية، فوزانها حينئذ وزان "علمه" من قولك: "أعجبني محمد علمه", ومثله قول الشاعر:

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما

يقول: إنك لم تخلص في صحبتنا، وإن ظاهرك وباطنك على طرفي نقيض، فارحل إذًا، ولا تقم بيننا، وإلا فكن على ما ينبغي أن يكون عليه الرجل المسلم: من طهارة وصفاء في سره وعلنه, والشاهد في قوله "ارحل لا تقيمن" حيث أبدلت الجملة الثانية من الأولى بدل اشتمال إذ هي أوفى منها في تأدية المراد الذي هو "إظهار كمال الكراهية في إقامته"؛ لأنها تدل عليه دلالة صريحة، مع تأكيدها بالنون, وإنما كان البدل اشتمالا؛ لأن الارتحال يتضمن عدم الإقامة.

ومثال بدل الكل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ؟ أبدلت جملة "قالوا" الثانية من جملة "قالوا" الأولى بدل كل، لأن الثانية أوفى من الأولى من حيث إنها مفصلة للمقول، فوزانها وزان "أخوك" من قولك: "زارني محمد أخوك"، وإنما كان بدل كل؛ لأن الجملتين بمعنى واحد، والاختلاف بينهما إنما هو بالإجمال والتفصيل.

ومثله قولهم: "فلان جمع بين أمرين: بين طهارة السريرة وحسن السيرة". وقولهم: "قنعنا بالأسودين, قنعنا بالماء والتمر". وقولهم في امراة تزني وتتصدق توبيخًا لها: "لا تجمعي بين الأمرين, لا تزني ولا تتصدقي", ومن لم يعتد ببدل الكل من الجمل يجعل كل هذه الأمثلة من تمييز التوكيد، أو من قبيل عطف البيان الآتي بعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>