أهل الفن، ألف المطول أولا، فتوسع في الحديث واستطرد في المباحث فرأى -تلبية لرغبة بعض الفضلاء- أن يوجه همته إلى اختصاره، والاقتصار على ما يوضح معاني كتاب التلخيص للقزويني؛ لتقاصر همم المحصلين وتقاعد عزائمهم -كما يقول- فتوفر على تحقيق هذه الرغبة، وألف مختصره، وهو ذلك الكتاب المشهور، والشرح المأثور. وقد عني العلماء بكتابة الحواشي والتقارير عليه، فاشتهر سعد الدين بذلك شهرة لم تكن لغيره ممن عنوا بالكتابة على "التلخيص".
غير أن هذا الشرح يؤخذ عليه كما يؤخذ على غيره من الشروح, والحواشي ابتعاد عبارته عن أساليب البلاغة بحيث لا ينبغي لدارس هذه الكتب أن يتخذ ما فيها من التراكيب قدوة له في كتابته؛ لأنها لم تتضمن غير عبارات اصطلاحية جافة، بعيدة كل البعد عن روح البلاغة، وتذوق الأدب، قصد بها شرح الكتاب المؤلف دون نظر إلى شرح خصائص كلام العرب، وتبيين مزاياه، وذلك مما يؤسف له.
هذا, ومن الغريب أن جل من تعاطى البلاغة هم من العلماء الأعاجم أو المستعجمين الذين تنازعت ألسنتهم ملكات لغاتهم الأصلية، فحسبوا أن البلاغة تجري مع المنطق والفلسفة في مضمار، فكتبوا بأساليبها كتب البلاغة؛ فازدادت تعقيدا وإبهاما، وبدلا من أن تكون عونا على تربية ملكتي الفصاحة والبلاغة، وحسن الأداء كانت عائقة عن نموها، حائلة دون بلوغها ما أريد منها.
ونحن لا نعيب أصحاب هذه الكتب بذلك, ولا ننتقص أقدارهم، ونعتقد أنهم بذلوا غاية الجهد على قدر ما وهبهم الله، وهداهم إليه, غير أن واجبنا يهيب بنا ألا نقنع بالذي صنعوه، وأن نعلي فوق الأساس ونتمم البناء, معترفين بما للسابقين من فضل, متمثلين بقول الشاعر:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها؛ فقلت الفضل للمتقدم
ومما ينبغي أن نقوله في هذا المقام هو أننا لا نستطيع أن نكون بلغاء بمجرد الإلمام بهذه القواعد التي انتظمها التلخيص ومختصر السعد وغيرهما، بل لا بد من الحصول على الملكة البلاغية، وحصولها متوقف -إلى جانب ذلك- على دراسة النصوص الأدبية، والاتصال بالمأثور منها في مختلف عصوره، وامتلاء النفس به، وتذوقه وحفظه ومحاكاته.