تريا نهارا مشمسا قد شابه ... زهر الربا فكأنما هو مقمر١
يلفت الشاعر نظري صاحبيه إلى صنيع المبدع القادر فيما أخرج من نبات بهيج ناضر، وكيف أن النبات -لشدة اخضراره، وكثافته- صار لونه يضرب إلى السواد حتى نقص من ضوء النهار المشرق، وكأنه ليل سرى فيه ضوء القمر، لا ترى فيه الأشياء الدقيقة، فهو يريد أن يشبه هيئة النهار المشرق وقد خالطه زهر الربا، فتضاءل ضوءه ونقص بليل بزغ قمره. فالمشبه مركب من نهار تألقت شمسه، ومن زهر نابت في الربا، والمشبه به مفرد مقيد بصفة، وهو "الليل المقمر". ومثله قولهم: القواد في ساعة الوغى كليوث العرين في الدفاع عن الحمى، فالمشبه مركب من القواد، ومن ساعة الوغى، والمشبه به "ليوث العرين" وهو منفرد مقيد بالإضافة كما ترى.
تنبيهان:
الأول: اعلم أن المراد بالقيد في التشبيه الذي كلا طرفيه، أو أحدهما مقيد ما يكون له دخل في وجه الشبه بحيث لا يتم التشبيه بدونه. ففي المثال المتقدم في تشبيه الساعي المقيد بعدم التوفيق في سعيه بالناقش المقيد بأن نقشه على الماء لا بد فيه من اعتبار هذين القيدين؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو -كما علمت- المساواة بين الفعل وتركه في كون النتيجة سلبا. وهذا المعنى لا يتم إلا بمراعاة القيدين المذكورين، وكذلك تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل لا بد فيه من اعتبار كون المرآة في كف مرتعش؛ لأن وجه الشبه بين الطرفين هو -كما سبق- الهيئة الحاصلة من الاستدارة، والحركة السريعة المتصلة مع نموذج الإشراق، وهذا المعنى لا يتوفر، ولا يستقيم بدون ملاحظة هذا القيد, كذلك لا بد في تشبيه الثغر باللؤلؤ
١ يقال: تقصى الشيء: بلغ أقصاه, أي: غايته, يريد: أمعنا النظر وتدبرا وفكرا، و"تصور" بحذف إحدى التاءين أي: تتصور، و"شابه": خالطه, و"الربا" جمع ربوة, وهو ما ارتفع من الأرض, وخص زهر الربا بالذكر؛ لأنه أنضر وأشد خضرة.