للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنبيهان:

الأول: اعلم أن التشبيه البليغ١ هو ما كان بعيدا غريبا٢ كما في تشبيه الهيئات المنتزعة من أمور متعددة -على ما عرفت- سواء كان وجه الشبه مركبا من أمور كثيرة أو لا, وسواء ذكرت أداته، أو لم تذكر لما هو مركوز في الطباع من أن الشيء إذا نيل بعد الاحتيال له، ومعاناة التوسل إليه كان نيله أحلى، وموقعه في النفس ألذ وأشهى؛ ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ودق موضعه ببرد الماء على الظمأ, قال القطامي:

وهن ينبذن من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

قالوا: وما أشبه هذا الضرب بالجوهر في الصدف، لا يبرز إليك إلا أن تشقه عنه, أو بالحبيب المتحجب، لا يريك وجهه حتى تستأذن, وقديما قالوا:

وزاده كلفا في الحب أن منعت ... وحب شيء إلى الإنسان ما منعا

أما إطلاق البليغ على التشبيه الذي حذفت أداته إطلاقا شائعا, فاصطلاح لبعضهم، وإلا فهو يسمى تشبيها مؤكدا، على ما سيأتي. ا. هـ.

الثاني: قد يتصرف الحاذق بصنعة الكلام في التشبيه القريب


١ المراد بالبليغ هنا ما يتخاطب به الخواصّ من البلغاء لما فيه من دقة التركيب، ولطف المعنى، وليس المراد ما كان مطابقا لمقتضى الحال, فإن المبتذل قد يطابق مقتضى الحال إذا كان الخطاب مع غبي متبلد.
٢ قد يقال: إن الغرابة منشؤها خفاء الوجه -كما علمت- فكيف يكون خفاء الوجه سببا في بلاغة التشبيه، مع أنه تقدم أن عدم الظهور ضرب من التعقيد وهو ينافي البلاغة؟ والجواب: إن الخفاء الموجب للتعقيد ما كان منشؤه سوء التركيب، أو اختلال انتقال الذهن من المعنى الأول إلى الثاني -على ما سبق- أما هنا فمنشأ الخفاء لطف المعنى ودقته وهذا محقق للبلاغة وموجبها، لا منا فيها كما في قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ ... } "الآية"، وكما في تشبيه الهيئات المتقدمة.

<<  <  ج: ص:  >  >>