للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذي وعد به الرحمن، وصدق فيه المرسلون، وأنكره الكافرون إنما هو البعث من الموت.

ولا يصح أن يكون "البعث" قرينة الاستعارة؛ لاشتراكه بين الطرفين, إذ يقال أيضا: بعثه من نومه إذا أيقظه، والقرينة يجب أن يكون لها اختصاص بالمستعار له؛ لتكون مانعة من إرادة المعنى الحقيقي.

٥- استعارة محسوس لمعقول كقوله تعالى: {فَاصْدَعْ ١ بِمَا تُؤْمَرُ} أي: بلغ الأمة الأحكام التي أمرت بتبليغها لهم تبليغا واضحا لا لبس فيه، ولا غموض. فالمستعار منه كسر الزجاجة ونحوها مما لا يلتئم بعد الكسر، وهو حسي٢، والمستعار له تبليغ الرسالة للمرسل إليهم، وهو أمر عقلي، والجامع بينهما التأثير في الشيء بحيث لا يعود إلى ما كان عليه، وهو عقلي، والمعنى: أبن الأمر إبانة لا يعود معها إلى الخفاء, كما أن كسر الزجاجة لا تعود معه إلى الالتئام. ومثله قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالمستعار منه {الظُّلُمَاتِ} و {النُّورِ} وهما حسيان، والمستعار له "الضلال" و"الهدى" وهما عقليان، والجامع في الأول عدم الاهتداء وفي الثاني الاهتداء، وهما عقليان أيضا، والاستعار فيهما لا تحتاج إلى بيان.

٦- استعارة معقول لمحسوس كقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} أي: لما كثر الماء, فالمستعار منه التكبر أو التعالى، وهو عقلي والمستعار له كثرة الماء، وهو حسي، والجامع بينهما الخروج عن حد الاعتدال٣، وهو عقلي كذلك. ومثله قوله تعالى: {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} استعار العتو، وهو عقلي لشدة الريح المفسدة، وهي حسية باعتبار متعلقها، والجامع عقلي، وهو مجاوزة الحد.


١ الصدع والكسر: تفريق أجزاء الأجسام المتماسكة.
٢ أي: باعتبار متعلقه لا باعتبار ذاته, إذ هو معنى مصدري، والمعاني المصدرية -كما قلنا- لا وجود لها خارجا, وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبه تبليغ الأحكام للناس تبليغا واضحا بالصدع بجامع التأثير في كل, ثم استعير لفظ المشبه به وهو الصدع للمشبه الذي هو تبليغ الأحكام, ثم اشتق منه "اصدع" فعل أمر بمعنى بلغ الأحكام تبليغا واضحا.
٣ شبه كثرة الماء كثرة جاوزت الحد بالتكبر المعبر عنه بالطغيان, ثم استعير اسم المشبه به وهو الطغيان للمشبه الذي هو كثرة الماء, ثم اشتق من الطغيان {طَغَى} بمعنى كثر, وهكذا يقال في أشباه ذلك من كل ما كان لفظ المشبه به مشتقا كما سيأتي البحث فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>