للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل ورد البناء عليه في التشبيه أيضا, كما في قول العباس بن الأحنف:

هي الشمس مسكنها في السماء ... فعز الفؤاد عزاء جميلا

فلن تستطيع إليها الصعود ... ولن تستطيع إليك النزولا

فهو يشبه إنسانة جميلة بالشمس، ثم يتناسى التشبيه، فيذكر أحوالا تخص الشمس من أن السماء مسكنها، وأنها لا تستطيع النزول كما لا يستطاع إليها الصعود. وكقول أبي العلاء المعري:

هي قالت لما رأت شيب رأسي ... وأرادت تنكرا وازورارا١

أنا بدر وقد بدا الصبح في رأسـ ... ـك والصبح يطرد الأقمارا

لست بدرا وإنما أنت شمس ... لا ترى في الدجى وتبدو نهارا

فقد شبهت نفسها بالبدر، ثم تناست التشبيه، فذكرت ما يخص المشبه به من كون الصبح لا يجامع البدر، وشبهها هو بالشمس، ثم تناسى التشبيه، فذكر ما يلائم الشمس من أنها لا ترى إلا نهارا٢.

وإذا جاز البناء على المشبه به أي: ذكر ما يلائمه من الصفات، مع الاعتراف بالمشبه في التشبيه, كان البناء عليه، مع جحد المشبه في الاستعارة أولى؛ إذ قد طوي فيها ما يتعارض مع هذا البناء، وهو ذكر المشبه٣.


١ الازورار: العدول والانحراف.
٢ بل لقد ورد ما هو أبعد من هذا, فقد وقع في بعض أشعار العجم النهي عن التعجب، مع الاعتراف بالمشبه، ومع التصريح بأداة التشبيه. وحاصل كلامهم في ذلك قولهم: لا تعجبوا من قصر ذوائبه, فإنها كالليل ووجهه كالربيع, فمن المعلوم أن المائل إلى القصر في الربيع هو الليل الحقيقي, ولما تنوسي التشبيه، وادعي أن الذوائب هي الليل الحقيقي وأن وجه المحبوب هو الربيع نفسه نهي عن التعجب من قصر الذوائب، فقد بنى على المشبه به مع الاعتراف بالمشبه، ومع التصريح بالأداة.
٣ قيل: إذا كان البناء على المشبه به موقوفا على تناسي التشبيه -كما تقدم- والتناسي ينافيه الاعتراف بالمشبه كان البناء على المشبه به عند ذكر المشبه ممتنعا, فكيف يدعى جوازه؟ أجيب: إن المنافي للبناء على المشبه به إنما هو ذكر المشبه مع الإشعار بأنه باقٍ على أصله من أنه لم يبلغ مرتبة المشبه به، ومجرد ذكر الطرفين لا يشعر بما ذكر, فيتأتى معه تناسي التشبيه، وادعاء اتحاد الطرفين في الحقيقة بدليل حمل أحدهما على الآخر وإلا ما صح الحمل، وهذا إنما يظهر في التشبيه الخالي عن الأداة, وأما عند ذكرها ففيه بعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>