نفيه في حسن الاستعارة ما لا يخرج به الكلام عن الاستعارة كما في البيت المذكور، ونحوه مما ذكر فيه المشبه على وجه لا ينبئ عن التشبيه, بخلاف ما لو ذكر فيه المشبه على وجه ينبئ عن التشبيه نحو:"محمد أسد"، أو صرح فيه بوجه الشبه نحو:"رأيت أسدا في الجرأة"، أو بالأداة نحو:"رأيت مثل الشمس", فإن مثل هذا الإشمام في الأمثلة المذكورة مبطل للاستعارة, فنفيه شرط لصحتها، لا لحسنها.
٤- ألا يكون وجه الشبه خفيا جدا بحيث لا يدرك بغير تأمل ونظر، فلا تحسن استعارة لفظ "أسد" للرجل الأبخر، وهو ذو الفم المنتن لخفاء وجه الشبه, إذ إن انتقال الذهن من معنى الأسد إلى الرجل إنما يكون باعتبار المعنى المشهور في الأسد، وهو الجرأة، لا البخر. فاستعارة لفظ الأسد للأبخر حينئذ يعد إلغازا وتعمية في المراد؛ ذلك أن من شروط حسن الاستعارة -كما علمت- عدم إشمامها رائحة التشبيه، وذلك مما يبعدها عن الحقيقة فإذا انضم إلى ذلك خفاء وجه الشبه ازدادت بعدا، فخفيت على الفهم، وصارت إلغازا. ومن هذا القبيل قولهم في الاستعارة التمثيلية:"رأيت يوم الجمعة في المسجد إبلا مائة, لا تجد فيها راحلة"١ من قوله, صلى الله عليه وسلم:"الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة" يريد: أن المختار المنتخب من الناس في عزة وجوده، مع كثرة أفراد جنسه كالنجيبة المنتخبة التي لا توجد في كثير من أفراد جنسها, فوجه الشبه بين الطرفين هو "عزة وجود الكامل، مع كثرة أفراد جنسه"، وهذا المعنى خفي؛
١ في الفائق: أن الراحلة: البعير الذي يرتحله الرجل، جملا كان أو ناقة، ثم إنه يحتمل أن تكون جملة "مائة لا تجد فيها راحلة" استئنافية أي: مائة منها لا تجد فيها راحلة, فهي جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: على أي حال رأيتهم؟ فقيل: مائة منها لا تجد فيها راحلة. ويحتمل أن تكون مائة نعتا للإبل, وأن ما بعده وصف للمائة أي: إبلا معدودة بهذا القدر الكثير الموصوف بأنك لا تجد فيه راحلة.