للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقس حالك، وأنت في البيت الأول، ولم تنته إلى الثاني: بحالك، وقدانتهيت إليه، ووقفت ببصرك عليه، فإنك -لا ريب- مدرك مدى تمكن المعنى في نفسك.

كما تدرك الفرق بين أن يقول لك قائل: "الدنيا لا تدوم، ثم يسكت، وبين أن يذكر عقبيه قوله صلى الله عليه وسلم: من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، أو أن ينشد قول لبيد١:

وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولابد يوما أن ترد الودائع

كما ترى الفرق واضحا بين أن يقول قائل: أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر ويقطع الكلام، وبين أن يشفعه بنحو قول ابن لنكك:

في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر٢

وهل تراك لو بالغ لك أحد في وصف أيام بالقصر فقال: أيام كأقصر ما يتصور، أكنت تجد لك من الأنس في نفسك ما تجده في نحو قولهم: "أيام كأباهيم القطا"، أو في نحو قول الشاعر:

ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب٣

فأنت في كل ذلك ترى المعنى في الحالة الثانية أسمى شرفا، وأشد وقعا، وأرسخ قدما منه في الحالة الأولى- ذلك لما يحصل للنفس من الإنس بإخراجها من خفي إلى جلي، ومن معقول إلى محسوس، ومما لم تألفه إلى ما ألفته، ومما لم تعلمه إلى ما هي به أعلم.


١ هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري أحد أشراف الشعراء المجيدين، والقواد البواسل المعمرين. نشأ جوادا شجاعا فاتكا وهو القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
٢ "السرو" نوع من الشجر ذو رونق ولكنه لا يثمر.
٣ "سالفة الذباب" مقدم عنقه، يريد: أن اليوم يحكيها في القصر.

<<  <  ج: ص:  >  >>