قوله:{إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هذا الاستثناء مفرغٌ مِنْ عُمومِ الأحوالِ، يعني: في أيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ لا تُجادِلُوهُم إلا بالَّتِي هِي أحْسَنُ.
وعبَّرَ {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولم يقل: (بالذي) مع أن (التي) للمؤنث؛ لأن المراد هنا: أي بالطَّريقَةِ التي هي أحسنُ؛ لأن المجادَلَةَ ليست كلمةً تُلْقى، بل هي طُرُقٌ، ولذلك في أَدَبِ المناظَرةِ تُوجدُ طُرُقٌ يتمَكَّن بها الإنسان من الوصولِ إلى إقناعِ الخَصم وإقامَةِ الحُجَّة عليه.
وقوله:{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: بالطريقَةِ المثْلَى التي يتَوَصَّلُ بها إلى إفْحَامِ الخَصمِ وهِي الأَدَاءُ، وكذلك الطَّريقةُ الأَقْوَى في إقنَاعِهِ وإقامَةِ الحُجَّةِ عليه وهي الصيغةُ، أي: صِفَةُ هذه المجادَلَةِ أو المنَازَعَةِ.
وقوله:{أَحْسَنُ} اسمُ تَفْضِيلٍ مُطْلَقٌ ليِعُمَّ الحُسنَ في سيَاقِ الأَدِلَّةِ، ويَعُمَّ الحسنَ في كيفِيَّةِ المجادَلَةِ، فلا بد مِنَ الأمرين، لا بُّدَ من حُسنِ الطَّريق، بمعنى: أن تأتي بأقربَ الطُّرُقِ لإقناعِ الخصْمِ، ولا بد أيضًا من كيفيَّةِ عرضِ هذه الطريقة، ونضربُ مثلًا للأمْرَيْنِ:
إنسانٌ عندَهُ قوة في المناظَرَةِ وإيرادِ الحُجَجِ، لكنه إذا جاءَ يجادِلُ أخَذَ في السَّبِّ والشَّتْمِ، يقول: أنت بَليدٌ وأنت كذا وكذا، هذا ليس بحَسَنٍ، وإن كان عَرْضُ الطريقِ وسياقُ الأدلَّة جيِّدًا؛ لكن كيفيةُ المجادَلَةِ ليس داخِلًا في قوله:{بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ}.
وإنسانٌ آخَرُ لَيِّنُ الكَلامِ مُهَذَّبٌ لكن لا يُحْسِنُ المناظَرَة؛ هذا أيضًا ليس دَاخِلًا في قولِهِ:{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
انظُر إلى إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لمَّا حاجَّه الملِكُ في ربِّه: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي