وذلك بأن يكونَ لَدَينا مِنَ القُوَّةِ والقُدرَةِ ما نتمكن به مِنْ ذلِكَ، وإذا لم يكن لنا قُدْرةٌ وكانت المصْلَحَةُ تقْتَضِي تَركْهم فإنَّنَا نتْرُكهم، وهذا -واللَّهُ أعلم- هو السير في أن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يَذْكُر حُكم هذا المستثنى صَريحًا، فلم يَقُلْ:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فجادِلُوهم بالتي هي أسْوأ، ولم يقل:{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} فلا تجادِلُوهم. بل جعله صالحًا للأمرين!
لو قال قائلٌ: تَفْسِيرُ المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ الآية بقوله: [فجَادِلُوهُم بالسَّيفِ حتَّى يُسْلِموا أو يُعْطُوا الجِزيةَ]، كيف يَسْتَقِمُ هذا التَّفْسِيرُ مع أن الآية مكِّيَّةَ؟
الجواب: يَستَقِيمُ هذا التَّفْسِيرُ؛ لأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ حالَ أهلِ الكِتابِ في مَكَّةَ ليَسْتَعِدَّ الناسُ لها.
قوله: [{وَقُولُوا} لمَنْ قَبِل الإقْرارَ بالجِزْيَةِ إذَا أَخْبَروكُم بشَيْءٍ مما فِي كُتُبِهِمْ]: أي: فقولوا: عنْدَ المنَازَعَة والمحَاجَّة؛ لأن بعضَ الناسِ إذا نازَعَ أو خاصَمَ صار يَسُبُّ مَحِلَّ الحجَّةِ من خَصْمِهِ، فإذا قال له المنازعُ: إن هذا القول قاله فلانٌ في مؤلَّف له، صارَ يَصُبُّ جامَّ السَّبِّ والغَضب على هذا الكتاب، ويقول هذا خَطأ، ولا ينبغي هذا العمل لأن هَذه قَضِيَّةُ عاجِزٍ.
فهنا نقول لهؤلاء المجادِلِين مِنْ أهلِ الكتاب:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا} وهو القرآن {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وهو التَّورَاةُ إذا كانُوا مِنَ اليهودِ، والإنْجِيلِ إذا كانوا مِنَ النَّصارى، فنحن لا نُنْكِرُ ما أُنزل إليكم، بل نقول: إنه حقٌّ، لكن نؤمن بما أُنْزِلَ إلينا ونقول: إنه حق، وإذا آمَنَّا بهذا فبَأَيِّهِمَا يكونُ الحُكمُ؟
الجواب: بما نَزَل أَخِيرًا وهو القُرآنُ؛ لأنه ناسِخٌ، وحينئذٍ يكون في قولنا هَذَا: