ثانيًا: إلزَامًا لهم بالإيمانِ بما أُنزلَ إلينا؛ لأن الإنسانَ بُشِّرَ فإذا قيل له: أنا آمنت بما أُنِزَلُ إليك فآمِنْ بما أُنْزل إليَّ، سيَأخُذُه الخَجَلُ والفَضْلُ وربما يوافِقُ؛ لأنه سيقول في نفسه: كيف يُؤمِنُ هذا الرجل بما أُنِزَل إليَّ وما أُنْزِل إليه وأنا أُكَذِّبُ ما أُنْزِلَ إليه، وهذا في الحقيقةِ مِنَ المجادلَةِ بالتي هي أحْسَنُ.
وقوله:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}، كلما جاءَ الأمرُ بالقولِ فالمرادُ به القولُ باللِّسانِ بعد الإقرارِ بالجنانِ؛ لأن مجرَّدَ القولِ باللِّسانِ لا يكون إيمانًا كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: ٨]، فالإيمانُ الذي لا يتَطَابَقُ فيه القلبُ واللِّسانُ، هذا ليس بإيمان، بل هو نِفاقٌ والعياذ باللَّه.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ:{آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} هذا من بلاغَةِ القُرآنِ، لم يقُلْ: وما قُلتم أو ما جِئتم به، بل قال:{بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا}؛ لأن لدَيْهِم من التَّحريفِ والتَّبدِيلِ ما لا يمكن معه أن نَقْبَلَ كلَّ ما جاءوا به، لكن نؤمِنُ بالمنَزَّلِ إليهم، ولهذا جاء في الحديث الصحيحِ:"لَا تُصَدِّقُوهُمْ ولَا تُكَذِّبُوهُمْ وقُولُوا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} "(١)، فنحن مؤمِنُون بالمنَزَّلِ لا المبَدَّلِ، وصِفةُ الإيمان بما أُنزل إلينا ليس كصِفَةِ الإيمانِ بما أُنزِلَ إليهم؛ لأن إيمانَنَا بما أُنزل إلينا مَلْزِمٌ بالاتِّباعِ وإيمانُنا بما أُنزل إليهم ليس مُلْزمًا، فإذا وُجِدَ في شرْعِنَا ما يخالِفُ شرعَهم فالمتَّبِعُ شرعْنَا،
(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف بهذا اللفظ عن عطاء بن يسار (٦/ ١١١) (١٠١٦١)، وأصله عند: أبي داود: كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب، رقم (٣٦٤٤)، وأحمد (٤/ ١٣٦) (١٧٢٦٤) عن أبي نملة الأنصاري.