ثم قال:{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: ١٤٦].
قَال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{وَمِنْ هَؤُلَاءِ} أَيْ: أَهْلِ مَكَّة]: و (مِنْ) للتَّبْعيض، وعلامة (مِنْ) التَّبْعِيضِيَّةِ أن يَحِلَّ محلَّهَا (بعض)، يعني: وبعض هؤلاء يؤمنون بِهِ، والمشَارُ إليه في قولِهِ:{هَؤُلَاءِ} أهلُ مَكَّةَ؛ لأن هذه السورةَ مَكِّيَّةٌ، فالمشار إليهم قَريبون إذ إنها نَزلتْ قبلَ الهِجرة.
وانظرِ الفرقَ بينَ التَّعْبيرينِ:{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، وقوله:{وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ}، كأن المؤمنين بذلك من قُريشٍ قِلَّةٌ، بَعضُهم يُؤْمِنُ به والأكثرُ لا يؤمِنُ به، والمرادُ مَنْ يؤمن به الآن في الحاضر لا المستقبل.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ:{مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} تقدَّمَ أن الإيمانَ عندَ الإطلاق يرادُ به التَّصدِيقُ المستَلْزِمُ لقبولِ ما جاءِ به الرسولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، والإذعانُ: وهو الانقيادُ وليسَ مجَرَّدَ التَّصديقِ، ولو كان الإيمانُ مجرَّدُ التَّصْديقِ لكان أبو طالب مُؤمنًا.
قوله: [{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} بَعْدَ ظُهورِهَا {إِلَّا الْكَافِرُونَ} أَيْ: اليهُودُ، وظَهَرَ لهم أن القُرآنَ حَقٌّ، والجَائي به محُقٌّ وجَحَدوا ذَلِكَ]: قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الْكَافِرُونَ} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، أي أن العَامِلَ قبلَ الاستثناءِ مَفَرَّغٌ لما بعده، وعلى هذا فنُعْرِبُ {الْكَافِرُونَ} فاعلٌ لـ {يَجْحَدُ}.
وقوله:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} المعروفُ أن الجُحودَ يتَعَدَّى بنَفْسِهِ فيقال: جَحَدَ الشيءَ لكِنَّهُ هنا مضَمَّنٌ معنى الكُفر أي: وما يَكْفُر بها جحودًا إلا الكافرون.
فإذا قال قائل: إذا قُلتم: وما يَكْفُر بها إلا الكافرون كأنه تَحْصِيلُ الحاصلِ؟
فالجواب: لا؛ لأننا نقول: وما يكْفُرُ بها جُحُودًا؛ لأن الكُفْرَ قد يكونُ استِكْبارًا،