وكذلك قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}[التوبة: ١١٥]، فإذا بُيِّن لهم ما يتَّقُون ولم يتَّقوا؛ حينئذٍ يحكمُ بضَلالهِمْ.
أما أن يُضِلَّهُمُ اللَّه جَلَّ وَعَلَا قبل أن يُبيِّنَ لهم ما يتَّقُونَ، هذا لا يُمْكِنُ حُدوثُهُ؛ لأنه ليس مما تَقْتَضِيهِ حكمَةُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعَدْلُه، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}[القصص: ٥٩]، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥].
وأخذَ أهلُ العلمِ من ذلك أن من نَشَأ بالبَادِيَةِ أو بِدَارِ كُفْرٍ وجَحَدَ ما هو معلومٌ عندَ المسْلِمينَ بالضَّرورَةِ فإنه لا يكْفُرُ حتى يُعرَّف به، فإذا عُرِّفَ به وتَبَيَّنَ أنه أنْكَرَ؛ حينئذٍ يَكْفُرُ، وهذه مسألة يجِبُ علينا أن نتَأَمَّلَها؛ لأن بعض الإخوةِ الغَيورِينَ على دِينهم يحكُمُون بالتَّكْفِيرِ على سَبيلِ الإطلاقِ، وهذا خطأٌ؛ فإنه ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنَّ مَنْ دَعَا رَجُلًا بالكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ"(١).
وأيضًا: الحكمُ بالتَّكفيرِ حُكمٌ من أحكامِ اللَّه؛ لأن قولَكَ عن هذا الرجل: إنه كافِرٌ، كقولك عن هذا الطعام: إنه حرامٌ أو إنه حَلالٌ، فالحكمُ بالكُفر والإيمان للَّه جَلَّ وَعَلَا، فلا يجوزُ أن تُكَفِّر إلا مَنْ كَفَّره اللَّه ورسولُهُ، بل ولا أن تُفَسِّق إلا مَنْ فَسَّقَه اللَّه ورسولُه، فالأمرُ ليس إليك، الحكمُ على العبادِ بيدِ خالِقِهْم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إن حَكَمَ عليهم بالكُفر فاحكمْ به وإلا فَلا.
كذلك أيضًا من شروطِ التَّكْفِيرِ: ألا يوجَدَ مانِعٌ، فإن وُجِد مانِعٌ من التَّكفيرِ
(١) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، رقم (٦١) عن أبي ذر.