والحصرُ الثَّانِي إضَافِيٌّ؛ لأن قولَهُ:{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} باعتبارِ الواقِعِ والحقيقة، فإنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس نَذِيرًا فَقَطْ بل هو نذيرٌ مُبِينٌ، وبَشِيرٌ، وسِرَاجٌ مُنير، فالحصرُ إضافِيٌّ -أي بالإضافة إلى كذا- فهو بالإضَافَةِ إلى الإتيانِ بالآيات غيرُ قادِرٍ، لكن يَقْدِرُ على شَيْءٍ آخرَ وهو الإنذارُ.
وقوله:{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يقولُ العلماءُ: الإنذارُ هو الإخْبارُ بالمُخَوَّفِ، أما الإخبارُ بالمرْغُوبِ فيُسَمَّى بِشَارَةً، فالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَذِيرٌ، وهنا لم يَقُلْ: بَشِيرٌ؛ لأن المقامَ يقْتَضِي ذَلكَ، إذ هو يخَاطِبُ المكَذِّبينَ المعانَدِينَ.
وقوله:{مُبِينٌ} بمعنى (بيِّن) ولهذا قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [مُظْهِرٌ]، وقد عَلِمْنَا أن (بان) لا تستعمل إلا لازِمَةً، يقال:(بانَ الصَّبْحُ) إذا ظَهَرَ، و (بان هذا من هذا) إذا انفْصَلَ عنه، وأما (أبان) فتُسْتَعْمَلُ لازمةً ومتَعَدِّيةً، يقال:(أبانَ الصبحُ)، بمعنى بانَ وظهَر، ويقال: أبان الأمرَ، بمَعْنَى أظْهَرَه ووَضَّحَهُ، وفي بعض الأحيان تكونُ الآية لا تحتَمِلُ إلا اللازمَ، وفي بعض الأحيانِ لا تحْتَمِلُ إلا المتَعَدِّي، وأحيانًا تَصْلُح لهذا وهذا.
فالرسولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {نَذِيرٌ مُبِينٌ} لإنْذَارِهِ، أو نَذِيرٌ بَيِّن الإنذارِ، وعلى هذا يكون النَّعتُ سبَبيًا أي: إذا جعلنا (مُبِين) بمعنى (بيِّن) والأصل أن النعتَ حَقِيقِيٌّ وليس سَبَبيًا.
وقَال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّه:[مُظْهِرٌ إنْذَارِي بالنَّارِ أهلَ المعْصِيَةِ]، أهلَ: مفعولٌ لإنْذَار؛ لأن إنذارَ مصدرٌ، والمصدر يعْمَلُ عَمَل فِعْلِهِ، فالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا شأنُهُ وهذه وَظِيفَتُهُ أنه مُنذِر، أما أن يَأْتِيَ بالآيات إذا طُلِبَتْ، أو أنه يَهْدِي النَّاس إذا ضَلُّوا،