للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهذا ما يفيدُهُ الحَصْرُ في قوله: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، وأكبر شاهِدٍ على ذلك أنهم سألُوه عن قِصَّةِ أصحابِ الكَهْفِ فقال: أُخْبِرُكُمْ بذلِكَ غدًا (١)، فامتَنَعَ الوحْي خمسةَ عشرَ يومًا لم ينزل، فضَاقَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بهذا، لكن هذا في الحقيقةِ من تَأْيِيدِ اللَّه للرسولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه يَنْفِي كلَّ شُبهة عن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّه يتَقَوَّلُ القرآنَ؛ لأن الذي يتقولُ القرآن يحْرِصُ غايةَ الحِرْصِ ألا يُخْلِفَ ما قاله لهم، ولجاء به من الغَدِ بناءً على وَعْدِهِ، ولكنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يتقول وإنما يتَلَقَّى، فهو يتَلَقَّى مِنَ اللَّه الوَحْي، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: ٦].

الفَائِدةُ الثانيةَ عشرةَ: أنه لا يجبُ على مَنْ بَلَّغ عَنِ الرَّسولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا الإنذارَ، فأهلُ العِلم الذي هُم ورَثَةُ الأنبياء لا يملِكُون هِدَايةَ الخلْقِ؛ لكن عليهم الإنذارُ والتَّبْلِيغُ.

الفَائِدةُ الثالثة عشرة: أن من بَلاغَةِ الكلام أن يكونَ الخِطابُ مُوافِقًا لمقْتَضَى الحال، وجه ذلك: الحصرُ في ذِكْرِ الإنذارِ فقط، فالرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَشِيرٌ ونَذِيرٌ، لكن المقام مقامُ محاجَّة الكافِرِينَ، فكان مُقْتَضَى الحال ذِكْرُ صفةِ الإنذارِ فقط وعدَمِ ذِكْرِ كونِهِ بَشِيرًا.

الفَائِدةُ الرابعة عشرة: المنْقَبَةُ للمُنذِرِ إذا كانَ مُبِينًا في إنْذَارِهِ، فيكون فيه مدْحٌ للفَصَاحَةِ والبَلاغَةِ، وقد قال النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ مِنَ الْبَيانِ لَسِحْرًا" (٢).

وكم من رَجُلٍ قليلِ العِلْمِ لكِنَّهُ قويُّ الفصاحَةِ، فيُؤثِّرُ تأثِيرًا كَبِيرًا أكثر مما


(١) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢/ ٢٠٧)؛ وأبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة (١/ ٢١٦)، وانظر: سيرة ابن هشام (٢/ ١٣٩ - ١٤٠).
(٢) أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب إن من البيان سحرًا، رقم (٥٤٣٤) عن ابن عمر؛ ومسلم: كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (٨٦٩) عن عمار.

<<  <   >  >>