وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} بعدَ الإشارةِ إلى الهِجرةِ كأنه يقولُ: بقاؤكُمْ في بلادِ الكُفْرِ من أجلِ التَّمَتُّعِ بالمالِ والبلاءِ والأوْطانِ نقصٌ في التَّفْكِيرِ؛ لأن هذا الأمرَ الذي أنتُمْ تحافِظُونَ عليه -وهو البقاءُ في البلادِ والتمتع بها- زَائِلٌ، فإذا كانَ زَائلًا ولا بُدَّ فكيف نُحافِظُ عليه ونَدَعُ ما هو أهمُّ وهو الهِجْرَةِ، ولهذا قال:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.
قوله:{ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: ثم بعدَ الموتِ نرْجِعُ إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وإذا رَجَعْنَا يتَبَيَّنُ الكشْفُ، أعني: كَشْفَ الحسابِ؛ لأن هذا الكتابَ {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}[الكهف: ٤٩]، فلا يغادِرُ صغيرةً ولو صَغُرَتْ؛ لأن قوله:{صَغِيرَةً} نكرةٌ في سياقِ النَّفْيِّ فتَعُمُّ، وكذلك لا يُغادِرُ كبيرةً ولو عَظُمَتْ إلا أحْصَاهَا.
ولو أن الإنسانَ أرادَ أن يُحْصَي ما يتَكَلَّمُ به في اليوم لكان عنده في الأسبوعِ مجلَّدَاتٌ، ولقد جَرَّبْتُ هذا وتَبَيَّنَ لي عظِمَ الأمرِ، وذلك أن بعضَ الإخوانِ سجَّلُوا دُروسَنَا في الحرَمِ وكتَبُوها في أوراقٍ، ثم أتَوْنِي بها فوَجْدُتَها شيئًا كثيرًا ما ظَنَنْتُ أن تبْلُغَ هذا المبلَغَ، بعضُ الأسئلة يكونُ جوابُها صفْحَةً أو صَفْحَتَيْنِ، والإنسانُ يظن أن الجوابَ كلماتٌ يَسِيرَةٌ، نسألُ اللَّه أن يعْفُو عَنِ الجميعِ.
فالإنسانُ يجِبُ عليه أن يَعْتَبِرَ بمثلِ هذه الأمورِ، وينْظُرَ كم تَبْلُغُ كلماتُه في كلِّ يومٍ، وفي كلِّ أسبوعٍ، وفي كلِّ شهرٍ، وفي كلِّ سَنَةٍ، وفي العُمْرِ كلِّه.
وقوله: [{ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بالتَّاءِ والياءِ (١) بعدَ البَعْثِ]: بالتاءِ والياءِ قراءتانِ سَبْعِيَّتانِ: "يُرْجَعُون" و {تُرْجَعُونَ}، والفرق بينهما من حيثُ المعْنَى أن (يُرجعون) للغائبِ، و (تُرجعون) للمخاطبِ.