والمطرُ ينْزِلُ مِنَ السحابِ كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ}[النور: ٤٣]، وبهذا نَعْرِفُ أن المرادَ بالسماءِ هنا العُلُوُّ، فكلُّ ما علاكَ فَهُو سماءٌ؛ لأنه مِنْ (سما، يسمو) إذا عَلَا.
والحكمةُ مِنْ نُزولِهِ مِنَ السماءِ أنه إذا نَزَلَ من السماءِ شَمِلَ النَّازِلَ والعَالي، ولو كانَ ينْزِلُ مِنَ الأرضِ لم يَصِلْ إلى العَالِي حتى يُدَمِّرَ النازِلَ، ولكنَّ حكمةَ اللَّه أن نُزُولَهُ من أعْلَى.
وقوله:{فَأَحْيَا}(الفاء) هنا تَدُلُّ على التَّرْتيبِ والتَّعْقيبِ، لكنها إذا اتصلتْ بجملَةٍ تَدُلُّ على السَّبَبِيَّةِ مع التَّرْتيبِ والتَّعْقيبِ، بخلافِ ما إذَا دخلتْ على اسم فإنها لا تَدُلُّ على السَّبَبِيَّةِ، تقول:(قامَ زيدٌ فَعَمْرو) وليس المعنى أن قيامَ زيدٍ سببٌ في قيامِ عَمْرٍو، لكنَّ المعْنَى أن قيامَ عَمْرٍو بعدَ قيامِ زَيْدٍ؛ لكن إذا اتَّصَلَتْ بفِعلٍ فإن الغالبَ إنها تُفِيدُ مع التَّرْتِيبِ السَّبَبِيَّةَ.
وقوله:{فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ} يكونُ الماءُ سَببًا لإحياءِ الأرضِ، والإحياءُ يكون في الحالِ لأن السببَ لما كانَ مُؤَثِّرًا صارَ كأنَّ الأثرَ متَرَتِّبٌ عليه فَورًا، كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً}[الحج: ٦٣]، فالأرضُ لا تُصْبحُ مخضَرَّةً بمجرَّدِ نزولِ الماءِ في اللَّيْلِ، لكن هذا سببٌ مُوجِبٌ، فلما كان سببًا موجِبًا صارَ كأنَّ السببَ موجودٌ في الحالِ، ومن ذلك قولهم: تَزَوَّجَ فلان فولِدَ لَه، وإن كان هذا أضعفَ مما تَقَدَّمَ لكن قوله:[فولد له] نحن نعلم عِلْمَ اليَقِينِ أنه لا يُولَدُ له في ليلةِ الزَّواجِ لكنَّ الزواجَ سببٌ للوِلادَةِ، ويكون الترتيبُ بحَسَبِه، فلا يَلْزَمُ أن يكونَ عَقِبَ المسبِّبِ، لكن إذا كان السبَبُ مُوجِبًا صارَ كان المسَبِّبَ عقب السببِ.