للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وثانيًا: أنها غَيْرُ باقِيَةٍ.

وثالثًا: أن الإنسانَ مُهدَّدٌ فيها فلا يَدْرِي متَى يَجِيئهُ أجَلُهُ صُبحًا أو مساءً، وكم مِنْ إنسان خرجَ من أهلِهِ ولم تَرْجعْ إلا جُثَّتُهُ، وكم من إنسان على كرْسيه فجاءَهُ الموت فلم يُكْمِلِ الكتابَةَ التي يخُطُّها بيَمينِهِ، ولهذا يقول الشاعر (١):

لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ... لَذَّاتُهُ بِادِّكَارِ المَوْتِ وَالهَرَمِ

مهما طالتْ بك الحياة سوف تهْرَمُ وتَدَعُ هذا العيشَ الطَّيِّبَ، أو تموتَ فلا تَبْقَى لهذا العيش أصلًا.

والحاصل: أن الدارَ الآخرة -صدَقَ ربنا جل وعلا- هي الحيوانُ، فهي التي ينْبَغِي للإنسانِ العاقِلِ أن يَسْعَى لها، والغريبُ أنه إذا سَعَى للآخرة حصَّلَ الدنيا والآخرة، وإذا سَعَى للدُّنْيَا فقط فاتَتْهُ الدُّنيا والآخرة، والدَّليلُ على ذلك قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: ٢٠]، ومعنى: {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} نُعْطِهِ حرْثَ الآخِرَةِ مع الدُّنْيَا، لقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} هذا جَزاءٌ عاجِلٌ، ثم قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: ٩٧]، هذا الجزاءُ الآجِلُ، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: ٢٠]، ولا نُعْطِيهَا لغَيرِهِ، وهذا الوعدُ مَقْرُونٌ بالمشِيئَةِ كما في آية الإسراءِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: ١٨]، قال: {مَا نَشَاءُ}، ولم يَقُلْ: عَجَّلْنَا له فِيها مَا يُريدُ ولا بَعضَ ما يُرِيدُ، ثم قالَ: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: ١٨].


(١) البيت في أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (١/ ٢٤٧)، وتلخيص الشواهد لابن هشام (ص: ٢٤١)، وغيرهما غير منسوبٍ.

<<  <   >  >>