للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: {حَرَمًا آمِنًا} أهل المجاز يقولون: آمِنًا مَنْ فيه، والصواب أن الحرَمَ نَفْسَهُ آمن، ولهذا عَصَمَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من كلِّ أحدٍ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: ١]، وحرَّمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- القتالَ فِيهِ (١)، فهو نفْسُهُ آمِنٌ، وإذَا أمِنَ نفْسُه أمِنَ مَنْ فيه.

قَال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [{وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} قَتْلًا وسَبْيًا دُونهُم]: ففي عَهْدِ الجاهِلِيَّةِ كان غيرُ أهلِ الحرَمِ لا يعرِفُونَ الأمنَ والأمانَ، يُغَار عليهم ويُقتلَوُن ويُسْبَون وتؤخَذُ أموالهُمْ ونساؤهم؛ لكنَّ أهلَ مكَّة آمنون، حتى إن الإنسان يجِدُ قاتِلَ أبِيهِ في الحرمِ ولا يَقْتُلُه مع شِدَّةِ الحَمِيَّة عندهم، لكن في غيرِ الحرَمِ تَجِدُ القتلَ والسَّبْي والنَّهْبَ، فكانت نِعْمَةُ الأمْنِ على قريشٍ نِعْمَةً عظيمةً، وكان عليهم أن يُقابِلُوا هذه النِّعْمَةَ بالشُّكْرِ والتَّصْديقِ للرسولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مع أنَّ الرسولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منهم يَعْرفونَهُ، ويُسَمُّونَه قبل أن يأتي بالرسالة بالأمينِ، ويحْتَكِمون إليه أحيانًا؛ لكن لما بُعِثَ بالرسالةِ وخالَفَ أهواءَهُم كَفَروا به، فالحرَمُ آمِنٌ وهذه نِعْمَةٌ تُوجِبُ الشُّكْرَ، حتى في فِتنَةِ القَرامِطَةِ وأخْذِهِمُ الحَجَر ما تغَيَّر الحرم بل بقي آمنًا، ولم تَتَعَطَّلْ فريضةُ الحجِّ.

قوله: [{أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} الباطِلُ: الصَّنَمُ]: وهذا فيه نَظَرٌ إلا إذا قَصَدَ


(١) روى البخاري معناه في كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، رقم (٤٠٥٩)؛ ومسلم: كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، رقم (١٣٥٣) عن ابن عباس، ولفظ البخاري: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام يوم الفتح فقال: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَم تَحْلِلْ (تُحْلَلْ) لي قَطُّ إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا (شَجَرُهَا) وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إلا لِمُنْشِدٍ". فقال العباس بن عبد المطلب: إلا الإذخر يا رسول اللَّه فإنه لا بد منه للقين والبيوت؟ فسكت ثم قال: "إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ".

<<  <   >  >>