وقَال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ:[بالنَّصْرِ والعَوْنِ]. هذا صحيحٌ، فاللَّه جَلَّ وَعَلَا معهم بالنَّصْرِ والعَوْنِ، وليس المرادُ أنه مَعَهم في مكانِهِمْ؛ لأن هذا شيء مُسْتَحِيلٌ، أي: مُسْتَحِيلٌ على اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكونَ مع الناسِ في أمْكِنَتِهمْ لا المحْسِنِينَ ولا غير المحسنين، وذلك لأن هذا القولَ يستَلْزِمُ نَفْي عُلُوِّهِ، وقد التزمَ بذلك من قال به مِنَ الجَهْمِيَّةِ القُدماءِ، أما المتَأخِّرون فيَرَونَ بأنه لا داخلَ العالمِ ولا خارِجَهُ، ولا فوق العالمِ ولا تحْتَه، ولا مُتَّصِلٌ ولا مبَايِنٌ، هذا ما استَقَرَّ عليه مذهبُ الجهْمِيَّةِ، وتَبِعَهُم في ذلكَ الأشاعِرَةُ، فإنهم يرونَ هذا النَّفْي المحْضَ، والعياذُ باللَّه.
أما قدماءُ الجهمية فقالوا: بأن اللَّه تعالى بذاتِهِ في الأرضِ وليس في السماءِ -والعياذ باللَّه- فقَلَبُوا الحقائقَ، فمِنَ العَجائبِ أن يَنْفُوا العُلُوَّ مع تَطابُقِ الأدِلَّةِ على إثْباتِهِ، وأثبْتُوا الحلُولَ مع تطابقِ الأدِلَّةِ على إنكاره.
والعُلُوُّ دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ والعقْلُ والفِطْرَةُ وإجماعُ سَلَفِ الأمةِ، فالكتابُ مَملوءٌ بما يَدُلُّ على عُلُوِّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى إن بعضَ أهلِ العِلم قال: إن في الكتابِ ألْفَ دَلِيلٍ على عُلُوِّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
والسُّنَّةُ كذلك مملُوءةٌ من الدَّلالَةِ على عُلُوِّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على وجوه متَنَوِّعة، من قولٍ وفِعل وإقرارٍ.
قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ"(١).
(١) أخرجه أحمد (٣/ ٤، رقم ١١٠٢١)، وابن حبان (١/ ٢٠٥) (٢٥)، وأصله عند البخاري: كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم (٤٠٩٤)؛ ومسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم (١٠٦٤) عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "أَيَأْمَنُني عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟ ".