للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما إذا قلنا: إن الهاءَ تعودُ إلى السَّفينةِ فذلك لأن اللَّه تعالى يقولُ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: ٤٢]، أي: خَلَقْنا لهم مِن مِثلِ الفُلكِ المشْحونِ الذي نُجِّيَ به نوح {مَا يَرْكَبُونَ}، فصار أوَّلَ من صَنعَ السُّفنَ نوحٌ، ثم أخذهَا الناسُ منه.

وتأمَّلِ الحكمةَ في قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: ١٣]، ولم يقل: حَملْناه على السَّفينةِ، تنْبيهًا على الموادِّ التي يُسمُّونها الموادَّ الخامَ في صُنعِ السفينة، وهي الألواحُ والدُّسُر، يعني: المسَاميرَ، فهي تُصنعُ من الألواحِ والمسَاميرِ حتى يَعرفَ الناسُ ذلك، وهذا هو الواقع، فإنَّ الناس عَرَفوهَا وتطورتِ الصنْعةُ إلى أن وصلتْ إلى ما وصلتْ إليه الآن.

وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} بعضُ العُلماءِ يقول: {وَجَعَلْنَاهَا} أي: السفينةَ عينَهَا، وأن أجزاءً من هذه السَّفينَةِ بَقي موجُودًا إلى أن أدْركَهُ آخِرُ الأمم، وهم أَوَّلُ هذه الأمَّةِ على الجُودِيِّ الذي ثَبتَتْ عليه، وهذا فيه نَظَرٌ.

والقولُ الثاني: أن الهاءَ في قولِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} يعودُ على السفينةِ باعتبارِ الجِنسِ لا باعتبارِ الشَّخْصِ؛ لأن سفينةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مرَّتْ عليها قُرونٌ عظيمة فتكَسَّرَتْ وأتْلَفتْها الرِّياحُ والشمسُ وذهبت، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا} [الملك: ٥]، (جعلناها) أي: الشَّهُبَ التي تخرجُ من هذه المصَابِيحَ: {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: ٥]، وكما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون: ١٢]، أي: الإنسانَ باعتبارِ جِنْسِه، فالضَّميرُ يعودُ إلى الإنسانِ باعتبار الجنْسِ لا باعتبارِ الشَّخصِ؛ لأنَّ آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ الذي خُلِق مِن سُلالةٍ من طِين ولم يكن في الأرحامِ نُطفةً في قرار مَكِينٍ.

فعلى هذا يكونُ قوله تعالى هنا: {وَجَعَلْنَاهَا} فيه قولانِ لأهْلِ العِلم:

<<  <   >  >>