التزام مفتٍ واحدٍ، بل تَعرِض لأحدهم مسألة في نواقض الوضوء كخروج الدم، فيذهب فيستفتي أحدَ العلماء فيُفتِيه بأنه لا ينقُض، ثم تَعرِض له مسألة في مسّ الفرج، فيذهب فيستفتي عالمًا آخر، فيُفتيه بعدم النقض، فيذهب فيتوضأ ويخرج منه دمٌ، فلا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الأول، ويمسُّ فرجَه ولا يعتبره ناقضًا بناءً على فتوى الثاني، ويُصلِّي بذلك الوضوء مع أنه قد يكون المفتي الأول يرى النقضَ بمس الفرج، والثاني يرى النقض بخروج الدم. فكان جميع القاصرين في تلك الأزمنة معرَّضين للتلفيق كما ترى، والصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومَن بعدهم من جميع العلماء لا يجهلون ذلك. ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِم العاميَّ أن لا يستفتي إلّا مفتيًا واحدًا، ولم يكن أحدٌ منهم يُلزِمُ العاميَّ إذا جاء يستفتيه عن شيء من نواقض الوضوء أن يسمع منه جميع المسائل المتعلقة بنواقض الوضوء، فضلًا عن بقية أحكام الوضوء، فضلًا عن الصلاة، وهذا يقتضي إجماعَهم على أنه لا حرجَ في التلفيق.
وإذا تأملتَ ما قدّمناه من أن المستفتي ليس مقلِّدًا للمفتي في شيء، وإنما هو عاملٌ بالدليل، اتضح لك أنه لا معنى لخشية التلفيق، لأنه في حكم المجتهد إذا أداه اجتهادُه إلى صورةٍ ملفَّقةٍ من مذهبَيْ مجتهدين ممن قبله، ولا حرجَ في ذلك اتفاقًا، فكذا هذا. نعم، وكما أن الإجماع المذكور حجة واضحة [ص ١٧٢] في عدم الحرج في التلفيق على الصفة المذكورة، فهو حجة على عدم الحرج في التلفيق حتى تتركَّب صورةٌ مُجمَعٌ على منعها. وهذا ظاهر أنهم كانوا يعتبرون كل جزئية من الجزئيات حكمًا مستقلًّا، فكما أن المجتهد قد يؤدِّيه اجتهاده إلى حكم من أحكام الصلاة يخالف بعضَ المجتهدين ممن قبلَه ويوافق بعضهم، ويؤديه اجتهاده إلى حكم من أحكام