للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الباطل، وإنما أوقع المسلمين فيما أوقعَهم فيه هذه الحيلة العوجاء، يريد أحدهم أن يدفع الباطل فيَعْمِد إلى باطلٍ مثلِه ليدفعه به، فيُزْهِق الله الجميع ويُظهِر الحقَّ على لسان من اختار، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: ٣٧].

ومع هذا فالمفسدة في دفع الحق أضرُّ من المفسدة في صولة الباطل؛ لأن في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ما يُميِّز بين المحق والمبطل، والهادي من المُضِلّ، وقد وعد الله تعالى الحقَّ بالظهور على الباطل، قال عزَّ وجلَّ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: ١٨].

والجواب عمّا مرَّ أن يقال: أما قولكم: "أين زماننا هذا من القرون الثلاثة؟ ... " إلخ، فالجواب: هذا مسلَّم، والسبب في ذلك ظهور بدعة التقليد، فإنها لما ظهرت صار من يريد طلب العلم إنما همُّه أن يتعلَّم في مذهب بعض الأئمة، فيشتغل بذلك من أول عمره، فينشأ على ذلك، وربما أفنى فيه جميع عمره. وأما سائر أهل المعاش فغاية أحدهم أن يتعلم مختصرًا في المذهب الذي عليه أبوه، ليعمل به، ثم يذهب في عمل دنياه، وزادَ الطينَ بِلَّةً كون الدُّوَل التي تتولَّى أمور المسلمين من المقلدين، فصاروا يُولُّون القضاء والإفتاء والتدريس غير أهلها، بل يشترطون أن يكون مقلدًا، فلو كان مجتهدًا لم يولُّوه شيئًا. وبعد أن صارت المذاهب أحْزابًا كلٌّ منها يتعصب لحزبه صار اجتهاد المتفقهين فيها إنما هو في جمع العامة، وجَرِّهم إلى جانبه، وتسليطهم على مَن يخالفه.