للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولمّا تكافأت هذه الأربعة المذاهب اصطلح فقهاؤها على أن يعترف كلٌّ منهم للآخر، ويتعصبوا على مَن خرج عنهم. فصار الاجتهاد مطرودًا متعصَّبًا عليه، ومن تظاهر به قيل: هذا مبتدع خارج عن المذاهب الأربعة، فاجتمعوا على أذيته، ولم يجد من يردُّ عنه، لأن أمور الدولة بأيديهم. ثم يجيء طالب العلم، فيرى هوانَ الاجتهاد وما وقع فيه صاحبه من المشقة والعناء، فتنصرف همتُه عن سلوك تلك الطريق، لما يرى أن نتيجتها في الدنيا العناء والتعب، بخلاف طريق التقليد، فإنه يرى نتيجتها في الدنيا القضاء والإفتاء، والمناصب العالية، والرتب السامية، والأموال الواسعة، والمواكب التابعة، إلى غير ذلك.

ثم طرأتْ بعد ذلك تلك القولة، أي انقطاع الاجتهاد، وشاعت في الناس، فكانت ضِغثًا على إبَّالةٍ، إذ انتشر بين الناس أن الاجتهاد ممتنع، فانقطعت رغبات الناس فيه ضرورةَ أن الهمم لا تتعلق إلا بما في نيله مطمع. ومع ذلك فإن الله تعالى لا يُخلِف وعدَه بحفظ الدين، فلم يزل في هذه العصور كلها من تقوم به الحجة من المجتهدين رغمًا عن تلك العوائق والقواطع، كما بُيِّن في هذه الرسالة وغيرها، والطريق بحمد الله تعالى واضحة ميسَّرة.

وأما قولكم: إنه لا يطيق جميع المسلمين قصدَ المجتهد في كل واقعة، فهذا صحيح، ولكن البلاد على قسمين:

الأول: الذي فيه أو بالقرب منه عالمٌ بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، عدلٌ يدعي الاجتهاد، فهؤلاء يتعين عليهم الرجوع إلى قوله على ما شرحنا، وبعد شرط العلم والعدالة وموافقة أحد المجتهدين ينتفي المحذور.