وأيْمُ الله لو أن أهل مدينة من المدن جاءهم كتابٌ من ملكهم يتناول كلَّ واحدٍ منهم، ما بقي واحدٌ منهم إلّا وأحبّ أن يسمع خطابَ الملك ويفهمه، فأما إذا علموا أنه أمرهم أن من عملَ بما في ذلك الكتاب استحق الإنعام والإكرام، ومَن لم يعمل بما فيه استحق التخليد في الحبس، فإن كلّ واحدٍ منهم يبذل جِدَّه وجهدَه ليطلع على ذلك الكتاب، وعلى الأقل على خبر جازمٍ ممن يثق به أن الذي في الكتاب هو كذا. فأما إذا قال له من يثق: أظن أن فيه كذا، فإنه لا يكتفي بذلك. [ص ٣٧] وكذا لو أرسل الملك رسولًا، وأمر كلَّ أحدٍ باتباعه والعملِ بقوله. إذا كان هذا في مَلِك من ملوك الدنيا، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعًا ولا ضرًّا، وإن أثاب فثوابُه محدود، وإن عاقب فعقابه منقطع، فكيف بنا وكتاب الله جلَّ جلالُه وسنة رسوله بين أيدينا، وثوابُه الجنة وعقابه النار؟ !
ولما كان سلف هذه الأمة وخير القرون يعلمون ذلك، ويعلمون أن كلَّ فردٍ منهم مكلَّفٌ بأن يعرف حكم الله تعالى من كتابه الكريم، أو مما يرويه له الثقات عن رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم= لم يكونوا يُعرِّجون على غير ذلك ولا يلتفتون إليه، ولاسيما مع علمهم أن غير المعصوم وإن علَتْ رتبتُه في العلم والفضل معرَّضٌ للخطأ والنسيان والغفلة وعدم الاطلاع وغير ذلك، فلم يكونوا يعملون إلّا بكتاب الله تعالى وإلَّا بما أخبرهم الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الخطأ والنسيان والغفلة وغيرها منتفيةٌ في الرواية، إذ لا تُقبل إلا بالجزم، بخلاف الرأي، فإن المجتهد مكلَّف بما غلب على ظنه، وقد يعزُب عنه الدليلُ فيعمل برأيه، فلم يكن مجرد رأيه