قوله تعالى في الحجرات:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[١٢]، وفي الحديث:"إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"(١). وعليه فتلك الظنون التي نعاها الله تعالى جلُّها أو كلُّها مجردُ أوهامٍ ضعيفة يبعدُ أن تكون راجحةً في ذهنِ عاقلٍ، ولذلك فسَّرها الله تعالى في الآية الأولى والثانية والرابعة بالخرص، والخرص يُطلق على الكذب وعلى الحَزْر والتخمين. وقال في الآية السادسة:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}[النجم: ٢٣]، فعطْفُ الهوى على الظنّ يدلُّ أن المراد به مجرد وهمٍ وخيالٍ وسوسَ لهم به الشيطانُ، وقلَّدوا آباءهم فيه، وشقَّ عليهم مخالفةُ آبائهم، وتكبَّروا عن الرجوع إلى الحق بعد أن كذَّبوه، إلى غير ذلك. ويُبيِّنه قوله بعد ذلك:{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، وذلك أن الذي جاءهم من ربهم هو بيان الحجج القواطع والبراهين الجلية التي تُبطِل ذلك الظنَّ، وقد بُيِّنتْ لهم أوضحَ بيانٍ حتى فهموها وعرفوها، فلم يبقَ مجالٌ لأن تكون أذهانُهم مرجِّحةً لما يخالفها، إذ لا يتصور أن يجتمع العلم والظنّ بشيء واحد في ذهن واحد باعتبارٍ واحد، فتعيَّن أن يكون المراد بالظنّ في الآية مجردَ الوهم الفاسد.
ونحو هذا يقال في بقية الآيات، فإن الكون مشحونٌ بالأدلة والبراهين من آيات الآفاق والأنفس، ومن بيان الرسل والكتب، فإن فُرِض أن بعض الأشخاص قصَّر عن البحث والتنبُّهِ لتلك البراهين ولم ينبَّه عليها، فإن الظنّ حينئذٍ يكون على بابه، لأنه يصدُق عليه بالنظر إلى ذلك الشخص أنه حكمُ
(١) أخرجه البخاري (٦٠٦٤) ومسلم (٢٥٦٣) من حديث أبي هريرة.