للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرًا ففي الناس مَن هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبًا ففيهم مَن هو أشد منك مرضًا وأكثر تعذيبًا، فلماذا ترفعُ رأسك لتنظرَ من هو فوقك، ولا تُخْفِضُه لتُبْصِرَ مَن هو تحتك؟! إن كنت تعرف مَن نال من المال والجاه ما لم تَنَلْه أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا، فلِمَ لا تذكر مَن أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم يَنَلْ بعض ما نِلْتَ؟!

وإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعًا كثيرًا من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله - عز وجل - التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها.

وكلما طال تأمُّلُ العبدِ في نِعمِ الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربَّه قد أعطاه خيرًا كثيرًا ودفع عنه شرورًا متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور.

الخامس عشر: الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة:

فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحَتْ نفْسُه، وازداد نشاطُه، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، ويعمل الخير الذي يعمله، إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان شغله دنيويًا أو عادة دنيوية أصحَبَها النية الصالحة، وقصَدَ الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان.

فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواءه الناجح: نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.

<<  <  ج: ص:  >  >>